رؤية نقدية تحليلية لقصة “عرائس الطين” للقاص أ. محمد عبد الحكم.. بقلم: هالة محمود

رؤية نقدية تحليلية لقصة “عرائس الطين” للقاص أ. محمد عبد الحكم.. بقلم:
هالة محمود

رغم أن القصص القصيرة تعد من الأشكال الأدبية الثرية بالمعاني، على الرغم من قِصر طولها، فهي قادرة على إيصال العديد من الأفكار بشكلٍ مُركز يعتمد على مهارة الكاتب، وقد أبهرتني قدرة الكاتب وحصيلته اللغوية الفائقة في سرد قصة بدى لنا معناها ومحتواها وكأنها رواية كاملة..

وأيا كان نوع القصة لابد أن تكون صدى صوت اصطدم بجبال الواقع فارتد لنا كلمات من واقع يعيشه الكاتب، ومن بيئة يحيا فيها لكنه ليس بحبيس فيها، فمن خلال القصة تأتيني الدلالة بأن الكاتب مبدع وهذا عكس أن يكون حبيس بيئته.. لكنه تفاعل مع الواقع بإبداعه، وخط قلمه ما لامس قلوب القراء…

بنى الكاتب أ. محمد عبد الحكم بناء فكري محكم متكامل له بداية شيقة، ونهاية سوف أقف عندها إن شاء الله، وعبر عن واقع قد نعيشه في معظم بلداننا في أماكن ريفية كثيرة، قرأت من قبل لكتاب أنسنوا الأشياء، وأبدعوا في أنسنة تلك الأشياء، لكني لأول مرة أقرأ لأديب أنطق أحداث القصة، وأنطق الراوي، وأنطق شخصيات القصة، وكذلك أنطق الطين.. فقال الطين ما أراد قوله دون أن يقوله.. وأحس بمنطوق الطين وغالب إحساسه، وتسلل لنا عندما نطق الطين غاية وهدف القصة اللذان من أجلهما صاغ الكاتب تلك الدرة.

فيبدأ الأديب أ. محمد عبد الحكم درته بفعل أمر “تأمل” والأصل في فعل الأمر أن يدل على الوجوب، لكن استعمال أسلوب الأمر هنا أزاح فيها كاتبنا المعاني المقصودة إلى اتجاه يريد منه انزياح حدده سياق الكلام ووضع له أُطر من قرائن الكلمات، .

وكأن فعل الأمر اتحد مع المضارع ليكون وجوبا وحتما وحالا انظر لذلك “العابر” والعابر وصلتني هنا أنه عابر بين بابين أحدهما باب الدخول للدنيا والثاني باب الخروج منها.. وما دل على ذلك استعمال الكاتب لجملة “يحمل جثته” فكلنا عابرون نحمل جثثنا والاتجاه إلى باب الخروج دائما..

ومن جماليات اللغة عند الكاتب استعماله للبدائل ذات المغزى.. كأن يقول “متهدلًا” دلالة على تعب وارهاق بعد عمل شاق طوال اليوم..

 

وكلمة “حواف الضوء” دلالة على الغروب وبأن هذا الكاتب يخرج فجرا ثم يعود وقت الغروب تعب مرهق، يريدنا أن نتأمله وأن تتفحصه عيون العابرين مثله، ونتأمل التواء الطرق التي اتحدت مع مصاعب الحياة لتزيده تعبًا ووهنًا، يريدنا الكاتب أن نشعر بكل ما يشعر به بطل القصة، بل ونعيش الحدث ونتفاعل معه.

وكأن القارئ هو البطل، ثم يبين لنا كيف يطوع معطيات القدر له لتساعده على تحمل ما هو فيه.. فهو يستند على همه وألمه، يستند على وجع “تفجر” واستعماله لكلمة تفجر التي لها مدلول “نهاية شيء” أو “بداية أشياء”، فالانفجار ينهي ويبدئ شيء ما، وهنا تفجر وجعه ليعطيه طاقة تكون سندًا له حتى يصل إلى البيت،.

ثم يموت مفردًا كعمود خرساني والموت هنا قد يكون موتى صغرى وقد يكون ذلك البطل قد وصل للبوابة الثانية، ومن شدة الأحزان والأوجاع التي مر بها البطل شبهه الكاتب بأنه يشبه عمود خرساني “شديد التحمل” لكن تم دقه هنا خطأ فهو قد كان يستحق حياة أفضل، أو أن ما مر به كان ابتلاء شديد وما كان له أن يمر به.

ما زال الراوي يخبرنا عن ابنته التي كانت معه، تلك الفتاة التي كانت تجمعهم حولها، إذن فالراوي كان ممن يلتفون حولها وعاش معها تجربتها، وتجربة بطل القصة، حينما صورت حياتها مع أسرتها كاملة بعرائس من الطين أظهرت فرحة الأب بابنته التي كان يحملها بين يديه، والأم التي لم يرها أحد من ذلك التجمع، فأصبح الراوي وكأنه كان فردًا داخل تلك الأسرة، وكأنها بعرائس الطين صنعت فيلما شاهده الجميع فأصبح الكل كأنهم جزء من تلك الأسرة..

صورت الحياة الأسرية كاملة بكل ما حدث فيها من طاقات سلبية وابتلاءات من موت وفقد، ودفن أجنة تحت بوابة البيت، ودلالة هذه الجملة أن هذا الجنين لم تنفخ فيه الروح بعد وبأنه في هذه الحالة لا يعامل معاملة الميت من غسل وصلاة على الميت إلى آخره، بل يدفن في أي مكان بالبيت.

يكمل الراوي بوصف حال الأب حينما مات له ولدًا، وبأن موت الولد كان عليه أشد حزنًا من موت أجنة السقط، وتلك الجملة أوضحت مكانة انجاب الولد لدى الأهل في القرى، حتى أن الأخت “الراوية” كانت تحدث أخاها وكأنه على قيد الحياة، دلالة على رفضها الداخلي موته، فصنعته من الطين كاملًا وله أعين يحدق فيهم بها، وبينت الراوية كيف كانت تتعامل الأم قبل موتها مع الولد ببعض التصرفات التي كانت تتبع في الريف من أجل حماية الولد من العين والحسد وما إلى ذلك..

تنهي الراوية الحديث عن أخيها بقول “أمي التي صرخت باتساع الكون” دلالة على عظم حزنها على فقد الولد الذي دارته عن أعين الجميع.. وحصنته بكل ما توارثته من تصرفات وأفعال، ليأتي دور الراوية التي وصفت حضن أمها بأنه متهدل “دلالة على كثرة الحمل والسقط والفقد”.
وهنا نسأل لماذا كانت العرائس من الطين؟

وللإجابة عن هذا السؤال سوف أتحدث عن حضن الأم الذي وصفته الراوية “ضمّتني إلى صدرها المتهدّل ثم احتواها الصّقيع” احتضنتها الأم لتنقل لها روحها التي هي الحياة ووضعتها في صدر ابنتها وهنا نجيب على السؤال لماذا كانت العرائس من الطين؟ فالطفلة الراوية لن تستطيع استكمال إنجاب أطفال لتحل محل أمها في تلك الحياة.. فهي صغيرة فما كان منها إلا صنع العرائس من نفس مادة صنع الإنسان وتحكي وتتحدث وتبين كيف عاشت حتى تنتظر الوقت الذي يصبح من حقها أن يكون في بطنها .

لك الطين وتُنفخ فيه الروح لتستمر الحياة، ولتصنع أسرة كما كان لها من قبل، ولتكمل الدور الذي تتوارثه كل أنثى عن الأنثى التي أنجبتها وهكذا هي الحياة عابر يحمل جثته، وعابرة تحمل جثتها يدخلون من باب ويخرجون من الآخر وما بينها تسمى “حياة” دور على كل منا القيام به..

وذكرتني غاية تلك القصة القصيرة بمسلسل أعده من أروع المسلسلات التي تم صنعها في العالم وهو “حديث الصباح والمساء” ورغم أن الهدف والغاية من القصة ليس شيئًا جديدًا علينا إلا أن التناول واللغويات ودلالات الكلمات التي بدت لنا وكأنها إسقاطات أدبية رائعة المعنى.. هي ما أدت إلى اظهار تلك الدرة وكأننا لأول مرة نتحدث عنها.

ثم ينهي الكاتب ما يؤكد به وجهة نظري حينما تقول الفتاة “هذه أنا” أي هذه الآتية قريبا لتتم دورها بعدما أتمت أمها دورها في ذلك الممر بين باب الدخول والخروج.
تحياتي للأديب الفذ أ. محمد عبد الحكم ودائما نقرأ لك إن شاء الله روائع مثل هذه.

النص:

عرائس الطين

قصة قصيرة /محمد عبدالحكم
________________
تأمّل هذا العابر يحمل جثّته، يمضي متهدّلاً على حوافّ الضّوء، ونظرات العابرين، والتواءات الطّرق، قادراً على أن يستند إلى همّه وألمه ووجعٍ تفجّر أسفل الصّدر، حتى يصل إلى البيت، ثم يموت مُفردًا كعمودٍ خرسانيٍّ دقّوه خطأً ولا يستطيعون خلعه.

لم تكن معه، تلك البنت التي كنّا نتجمّع حولها، حين تصنع من الطّين عرائس، ترصّها على الجدار وتشير بإصبعٍ مدبّبٍ:

” هذا أبي يحملني بين يديه، وتلك أمي التي ماتت. أنتم لم تروها”.
ثم تشّكل أجسادًا متناثرة الأذرع والرّؤوس، ووجوهًا بلا ملامح، وتقول:
“هؤلاء أخوتي .. ماتوا في بطن أمي، ونزلوا نتفاً من لحمٍ، كانت وجوههم ممسوحة الملامح، لا تصرخ، ولا تبتسم، ولا ترى، كان أبي يدفنهم أسفل عتبة الباب، مرّةً، ضمّ واحدًا منهم إلى صدره وبكى. طبطب عليه الرّجال وهم يمسحون شعره الأشيب. كان ولدًا، وكان كاملا ً.. هكذا ”
وشكلّت غلامًا صارخ الملامح، أنفٌ مدبّبةٌ، وعينان واسعتان، ووضعت خرزتين سوداوين في موضع العينين، فحدّق فينا وابتسم، كانت توزّع الحكي علينا وعليه، وتستشهد به في بعض المواقف:
“أليس كذلك يا أخي؟.”

فتلمع العينان أمام وجوهنا المندهشة، قبّعةٌ من سعفٍ، وجلبابٌ مقلّمٌ، وقطعتان من بلاستيك كأنّهما حذاء، وصمتٌ يحتوينا، وهي تُلبسه وتغّني له وتحكي عن أمّها: “كانت تدلّله وتداريه عن عيون الّناس، وتلبسه من ثياب أبي، وتريحه في حجري، وعندما مات، كان ناظراً إلى السّقف، يداعب بريق عينيه يمامات الضّوء. كان يابساً، وبارداً، وجميلاً، أمي التي صرختْ باتّساع الكون.. ضمّتني إلى صدرها المتهدّل ثم احتواها الصّقيع”.
قال أبي :

” ماتت بحسرته”

“وضمّني، ولفّ بي في فراغ البيت، ينكفئ ويعتدل، ويبصّ ويحاذر، ويلهث، ويتقرفص في الزّوايا كأنّما يختبئ من عيونٍ لا أراها”.
وشكّلت بالطّين جسدين ملتصقين وأربعة عيونٍ وقالت: “كنا هكذا.”
كانت تبدر الأغاني البكر، فتنبت بين جدران البيوت وتجمّعات النّسوة، وليالي السّمر، وأفواه المدّاحين، تقول ان لا أحد يعرف هذا الغناء غيرها وإخوتها، هؤلاء، وتلمس الأجساد المتناثرة، فتنبعج كتل الطّين، ويبصّون بعيونٍ لا تطرف هم الذين يأتون بالّليل حين ينام الجميع، يحيطونها، وجوههم مستديرةٌ، وأفواههم الصّغيرة تتشقّق عن كلمات بكرٍ، تحفظها، وفى الصباح ترددها:

” أما أخي هذا، فهو الذي يقصّ عليّ الحكايا ….. ”
هذا العابر يحمل جثّته، وقف لحظةً، وتأمّلنا.كنّا نحيّيه، فانحنى بوجع السّنين، ومرّر يده فوق أصابعنا، حمل ابنته واستقام كالنّخيل، فأشارت من علٍ بإصبعها صوب تمثالين متعانقين وضحكت. كانت دمعاته تتدحرج على التّراب، وهي تهتزّ على كتفيه، ثم تركها بيننا واستقام رغم اتّساع الجرح في ساحة البطن، ومضى، حيث في البيت يموت مُفرداً، وبنته تشكّل تمثالاً بحجم الكون، وتلملم سعف النّخيل وتنكت الشّعر، وتدلي سباطتين على الصّدر الممسوح وتقول: هذه أنا.

قد يهمك أيضا

دراسة عن ديوان (قراية فنجان مكسور) كتبها دكتور أبوزيد بيومي