دراسة عن ديوان (قراية فنجان مكسور) كتبها دكتور أبوزيد بيومي

دراسة عن ديوان (قراية فنجان مكسور) كتبها دكتور أبوزيد بيومي
الشعر … صراع الواقع والمأمول دكتور / أبو زيد بيومي
على الشاعر أن ينحاز … …
ليس إملاءً أو توجيها للشعراء بأن يكونوا منحازين ، بل هي بديهية إبداعية ، لا يكون الإبداع إبداعًا بدونها . فما الكتابة إلا إنحيازٌ للذات أولا ؛ انحياز يفرض على الشاعر رؤية العالم بطريقة مختلفة ، اختلافا يمنحها التميز . حيث يصوغ الأشياء بصورة جديدة تختلف عما هي عليه في عالم الواقع . إنه يسلط عليها ضوءاً شعوريا خاصاً يكشف عن حركة معنوية جديد ة فيها ، تمنحها القدرة على الالتحام بذوات الآخرين . وبدون ذلك يفقد المبدع وظيفته الأساسية وهي التأثير .
يترتب على انحياز المبدع ـ و لا سيما الشاعر ـ صراع حتميٌّ ، بين ما هو متاح في عالم الحِسّ والواقع ، و بين ما هو مأمول في عالم الشعور والخيال . فكل قصيدة إبداع وكل إبداع صراع ، تختلف حدته تبعا للمعالجة اللغوية التي يقدمها الشاعر في النص . فالنصوص الإبداعية هي في النهاية معالجة لمفردات الكون ؛ لإكسابها وظيفةً جديدةً غير تلك الوظيفة العملية المتاحة لأي أحد .
و ليس ضروريا أن يقدم الشاعرُ المأمولَ في النص من خلال وصايا يدعو الآخرين إليها في صورة الآمر أو الداعي . فهو ليس خطيبا يقف على منبر ، و إنما هي دعوة غير مباشرة و غير خطابية ، يقدمها من خلف ستار شفيف من الأبعاد الاستعارية ، التي تمنح اللغة طاقة جديدة ؛ تحرك ولا تدفع ، تحذر ولا تمنع ، تفتح الطريق للمتلقي دون أمر مباشر أن يسلكه . فالشاعر ينطلق من ذاته حتى ليبدو أنه منعزل عن الآخرين . ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يمنح المتلقي نقاط التقاء تقنعه بأن يشاركه الشعور ذاته ، حيث يرتد النص به ليقف في البؤرة الشعورية ذاتها التي يقف فيها المبدع ليصير كلاهما في مجال موضوعي معادل ؛ و هو النص .
يقدم الشاعر جابر الزهيري مشهدا شعريا مختلفا ؛ بدءا من عنوان الديوان “قراية فنجان مكسور ” . حيث يصادر منذ البداية على ما هو مأمول من خلال وضع المعنوي في مقابل المحسوس ، ليراهن على انحياز المتلقي إلى جانب المحسوس ” فنجان مكسور ” ، لأنه بطبيعته يتعامل مباشرة مع الحواس ، بينما تضعف فرصة المعنوي “قراية ” ؛ لأنه يأتي في صورة افتراضية تحتمل السلب و الإيجاب ، وعليه تصبح المعادلة في صالح ما ندرك على حساب ما نجهل . إن الشاعر ــ هنا ــ يصادر على التوقع المحتمل من فعل ( القراية ) لأنها حتما ستكون غير موافقة للمأمول لأن أداتها ذلك (الفنجان المكسور) ، بما تحمله هذه الدلالة من انكسار و خيبة أمل فيما هو آت . فالشاعر يغلق الباب أمام أي احتمالات أخرى .
و يلقي هذا العنوان بظلاله على عدد من قصائد الديوان ، ففي قصيدته ” كوم الزهير ” و التي يقول فيها ـ بعد أن يفتتحها بمشهد يصف من خلاله مكانا بسيطا يلعب فيه ” العيال ” ألعابا صارت بمرور الوقت فولكلورا قرويا عفا عليه الزمن :
التوتة رامية غصنها السارح
نواحي الشيخ ” عُمار ” فوق قبته
والنسمة بتلاعب ورقها .. تهدهده
قوم يبتسم و يزيد جمال
و فروعها تحضن بعضها
و احنا بنلعب تحتها أنا والعيال
و نلمّ غطيان الكاكولا أمّات فلل
و نروح لأمين السنكري
يعمل لنا صفافير صفيح
و نسِنّ في سيوفنا الجريد
علشان حروب
هاتقوم ما بينا و بين عيال
غرب البلد بعد العِشا
وفي مشهد آخر يقول :
أما الحريم
قدام طرمبة ” عبحكيم “
كانوا كل يوم
يتلموا ساعة العصر يحكوا لبعضهم
مرّة على جنينة الضعيف
و ع الدريس اللي جابوه
و ملوا به زنافير البيوت
و ع الخبيز
إن الشاعر يستحضر الماضي من خلال هذه المشاهد ، في حدوتة سردية مشحونة بالشعر ، حيث يمنح السردُ الشعرَ التشويق على مستوى المعنى ، والترابط على مستوى البنية . في المقابل يمنح الشعرُ السردَ شحنة مفعمة بالمؤثرات التي تتميز بها لغته من صور و موسيقى تجعل للحدوته إيقاعا مميزا في نفس المتلقي . إنه يجعل النص مسئولا عن نقل الصراع الشعوري من خلال التغيرات التي ترصدها حركة الحدوتة داخل النص:
و كمان سنين جريت قوام
فيها الغروب كان كل فترة
ييجي ياخد
حد م الصحبة الجديدة
والشيب عرف سكة دماغي
و زرعها حيرة
و كام سؤال
من بعد ما زرعة سنيني فرعت
بتلات فروع
ماعرفشي ليه
مش لاقي طعم الفرحة
جوة عنين لعبهم زي ما شفته زمان ؟
إنه يفجر بهذا السؤال بركانا شعوريا يعكس صدمته بمدى خيبته في المأمول ؛ حيث انسحبت منه البراءة التي كانت تصنع سعادة حقيقية يبقى أثرها في النفس ، وهو ما يظهر في حزنه من انسحاب البسمة سريعا ، فلا يبقى لها أثر :
والبسمة وقت اللعب
إن كان بتيجي ترح قوام
ثم يوظف الشاعر مفردات المكان التي حسمت الصراع لصالح القبح على حساب الجمال :
حتى الغيطان
رمحت عليها بيوت كتير
خلتها تبعد
خلتها ترجع هى والنخل لورا
والقعدة شايها ماعادش شاي
طعمه اختفى
فوق الوابور
والناس خلاص
ما عادتش فاضية للقعاد
إن تراجع الغيطان والنخل أمام زحف البيوت يجسد تراجع القيم الإنسانية أمام قيم المادة الصماء ، التي جعلت ” الناس خلاص … ما عادتش فاضية للقعاد “
لقد حلت أشياء مثل ( الدش والقهاوي و البيوت الجديدة) محل ( الغيطان و الطاحون والدريس والطرمبة ) ، حل ما يُفرّقُهم محل ما يجمعهم ، حتى إن المأمول عند الشاعر انحصر في مجرد خوفه من أن يكون الواقع قد قضى على ملامح قريته ” كوم الزهير ” نهائيا :
خايف في يوم
ألقى الغروب
واخد معاه
” كوم الزهير “
وفي قصيدة غربة والتي يقول فيه الشاعر :
خلي بحور أحزانك تروي
جناين همك
يمكن يوم تطرحلك
غربة جديدة
تعيش في وريدك
مطرح دمك
وتعيش بيها
باقي حياتك
شايل همك جوة كفوك
بس ف قلبك
غربة ذاتك
إن الشاعر يصادر كعادته على ما هو آت ، فيحسم الصراع الشعوري لصالح ذلك الواقع الذي يسيطر دائما على المشهد ، بل لا يجد الشاعر بديلا لتغيير هذا الواقع إلا بالدوران فيه ، حيث يستبدل غربةً بغربة ؛ حاملا الهموم ذاتها . ولذا فإن هذه الغربة تصبح في النهاية جزءا من تكوين الذات ، حيث يغلق الشاعر بابه نهائيا أمام أي محاولة للبحث عن مأمول جديد .