رؤية نقدية بقلم/ا. نهال القويسني عن المجموعة القصصية.. أحلام راقصة

أحلام راقصة

“احلام راقصة” هو العنوان الذي اختاره الأستاذ زكريا صبح لمجموعته القصصية الجديدة والتي صدرت منذ مدة وجيزة.
هي المرة الأولي التي أطالع فيها عمل أدبي من ابداع الأستاذ زكريا، والحق اقول ان المجموعة كانت مفاجأة بالنسبة لي..مفاجأة سارة جدا..فهي المرة الأولي التي أقرأ فيها مجموعة قصصية باللغة العربية تطرح الأفكار والمشاعر الإنسانية بهذه الصورة المتميزة.
حين شرعت في مطالعة المجموعة تصورت أن المفتتح تليه القطعة الأولي فقط هي التي تمت صياغتها بطريقة مختلفة ومبتكرة. ولكني بدأت الاحظ مع استمراري في المطالعة أن هناك طعما مختلفا لقصص المجموعة إذ تتوالى الواحدة بعد الأخرى. استوقفني الأمر بشدة، والحقيقة انه راق لي بصورة كبيرة بعد أن تأكدت أنني أمام عمل غير تقليدي في فكره وأسلوب طرحه وتناوله. وبات من الواضح بالنسبة لي أنه لا بد من التعامل معه بجدية، وأخذ كل الاستعدادات اللازمة للغوص في أعماق الأفكار المطروحة والتعامل الاستثنائي مع مفردات اللغة، بحيث تعكس استثنائية الفكر والمشاعر والصور الأدبية غير النمطية.
وأصبح من المفروغ منه أنني أمام لوحة فنية سريالية، تداعب حواس القارئ وتستفز فكره برؤي فلسفية عميقة، حيث تصور له مشاعره وأحاسيسه المعتادة بأسلوب يستدعي منه التوقف والتأمل.
وربما زال عني بعض التعجب، الذي تولد من قراءتي للنصوص، حين علمت أن الأستاذ زكريا قد درس الفلسفة. وهو بكل تأكيد دارس واعي ومخلص لها، وأكبر دليل علي ذلك هو طريقة تعبيره عما يعتمل في نفسه، بل في أنفاسنا جميعا، من جراء نمط الحياة العصرية التي نحياها في العصر الحديث. ذلك النمط الذي يمسك بتلابيب إنسانيتنا من كل اتجاه، منذ لحظة قدومنا إلي الحياة، فلا يكاد يفلتها الا بعد أن يزهق منها الروح، حتي وإن ظل الإنسان على قيد الحياة.
كل هذا الصخب..كل هذا الضجيج وكل هذه المادية، وكل هذه الضغوط الأدبية والمهنية والإجتماعية والعاطفية تحاصر الإنسان في مختلف مراحل حياته، لتضعه قسرا في قوالب محددة تراد به من أجل الهدف الجمعي..بغض النظر عن طبيعته وعما يشعر هو به وما يحتاج إليه وما يريده وما لايريده. ويظل يفقد أجزاء من إنسانيته قطعة بعد أخرى، يوما بعد يوم وعاما بعد عام حتي يفقد إنسانيته وتتمزق روحه ويتشوه وجدانه، ليصل به إلي مرحلة الفصام التي أصبحت سمة عامة تميز المجتمعات الحديثة، المادية والنفعية والبراجماتية والمصلحة الشخصية إلي آخر القائمة. وتبدأ برودة اللاإنسانية في التسلل إلي أطرافه حتي تأتي علي روحه وتفتك بقلبه وبأحلامه. تلك الاحلام التي يقتلها الآخرون امام عينيه فينحني ليلملم اشلاءها ويبكيها وهي ممزقة. يغتالون الفطرة في قلبه حين يسخرون من براءة الطفولة وحنان القلب وسلامة المقصد بداخله. ولا يرضيهم الا ان يصبح وحشا مثلهم..لا يقبلونه الا بعد يذبح الطفل بداخله ويأكل قلبه بعد أن يقطعه بيديه كل ليلة.
وهو في خضم هذه المعارك الضارية التي يخوضها ليثبت وجوده..او علي الاقل يضمن ذلك الوجود، يصارع أشباح الموت والمجهول التي تنازعه الحياة، وتظل تلوح له كل يوم من بعيد ومن قريب..وتحنث بالوعد وتخون العهد..ولا يفتأ هو يهاجمها ويهادنها لكي يتقي شرها المستطير..المحتوم.
بحر خضم متلاطم الأمواج يصارع فيه كل يوم وحيدا معزولا لا يشعر به أحد ولا يحس بمعاناته أحد..وكل الذين يحبهم ويخاف عليهم لا ينظرون الا إلي ما يستطيع أن يقدمه لهم فقط..بغض النظر عن أية معاناة أو آلام. ويظل يدور في تلك الدائرة ويقطع نفس الطريق..لتزداد عزلته النفسية ويتصاعد ألمه الإنساني وتتقطع به السبل فلا تحتويه سوي الجدران الأربعة التي يسكن إليها..تتعاطف معه وترثي لحاله وتواسيه علي ما فقده وما ضاع منه وما أجبر (بضم الهمزة) علي تركه والتنازل عنه كرها.
لوحة فنية سريالية الخطوط تستدعي إلي الأذهان لوحة بيكاسو “الجورنيكا” عن الحرب الأهلية في أسبانيا. الوان وخطوط وعيون ووجوه تختلط مع أطراف وأصابع حتي تضيع الملامح وتنصهر الإنسانية تحت وطأة القسوة والعنف والإكراه والطمع والأنانية.
معزوفة إنسانية راقية وعمل أدبي متميز تم فيه استخدام اللغة بصورة استثنائية، حتي حين تعلق الأمر بتعبيرات شائعة أو نصوص دينية..تم توظيفها ببراعة ورقي لافتين للنظر يستدعيان الإعجاب.
وجبة أدبية وفكرية مشبعة راقية تنم عن موهبة واضحة وثقافة إنسانية متحضرة، ووعي كبير بتحديثات العصر ومعاناة الجنس البشري في مواجهتها.
تحية خالصة للأديب الراقي المتميز الأستاذ زكريا صبح وتمنياتي بدوام العطاء والابداع.