مبدعو مصر
انعطافات الحضارة: من العزلة المادية إلى العزلة الرقمية
نعيش الآن في مرحلة زمنية تتسارع فيها تحولات الحضارة البشرية بآلية حادة، فبعد أن كانت البشرية تنعطف حضارتها انعطافات متباطئة مثل اكتشاف كيفية إشعال النيران أو اكتشاف الزراعة، كانت البشرية تستغرق مئات بل وآلاف السنين للوصول لانعطافة جديدة تُغير من شكل ومفردات حياة الإنسان على الأرض، أصبحنا الآن في عصر تتسارع فيه الفترات الزمنية ما بين الانعطافات، فانتقلت البشرية من عصر الفحم إلى عصر الكهرباء ثم عصر الطاقة النووية إلى عصر الحاسوب وعصر الإنترنت وبسرعات فائقة وصلنا لانعطافة شبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، التي معها أصبح التسارع والتحولات المعرفية لا تكاد تتوقف. كل تلك التحولات أدت إلى تغيير مستوى رفاهية وحياة الإنسان، لكنها في الوقت ذاته زادت أزمات البشرية.
مع ثورة الزراعة حدث تحول كبير في نمط البناء الاجتماعي للبشرية، وبعد أن كان الإنسان الأول منخرطا في عزلة فردية، ثم تطور إلى مجموعات بسيطة تعيش منعزلة داخل حدودها. تحولت وتشابكت المجموعات البشرية في نسيج من قرى ومدن ودول. واستمر هذا النسيج حتى اليوم في النمو والتمدد ليغطي جزءاً كبيراً من مساحة الأرض، وأصبح الإنسان سيدها المتوج بهذه الشبكات المتماسكة من التشكيلات المجتمعية القائمة على فكرة الجماعة الكلية للإنسانية ووحداتها الفسيفسائية. ومن ثم احتاجت البشرية إلى اختراع يربطها كنسيج واحد، فكانت ثورة الاتصالات التي توجت بدرتها وهي شبكة الإنترنت.
قبل الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، كان الفرد يعيش داخل منظومات جماعية متعددة مثل الأسرة والأصدقاء وزملاء الدراسة أو العمل وجيران الشارع. كانت العلاقات الاجتماعية قائمة على التفاعل المباشر بين إدراك الظاهر والوعي بالباطن. بُنيت العلاقات الاجتماعية على العلاقة الإدراكية بين تراكم التجربة والفراسة الفطرية، وسهولة انعكاس الباطن على ملامح الظاهر. كانت العزلة في تلك المرحلة تعني الاعتزال داخل حدود المكان المغلق، ومعها تتمزق العلاقات الاجتماعية بشكل تام. كانت العزلة واضحة المعالم وغير خادعة، ومعها يبدأ الجميع في محاولة إخراج هذا الفرد من عزلته مهما كانت أسبابها. كان نسيج العلاقات الاجتماعية في كثير من الأحيان أقوى من نسيج الفرد مع عزلته.
مع انعطافة شبكات التواصل الاجتماعي، تغيرت العزلة في ملامحها ومفاهيمها. وتحولت من مفهوم مادي مكاني ونفسي وروحي إلى مفهوم ذي ملامح نفسية وروحية، وفقد المكان جزءًا كبيرًا من دوره في العزلة. مع تحول الإنسان من مجتمع الواقع إلى المجتمع الافتراضي انعزلنا جميعًا داخل نفس المكان وبين نفس الجدران. صارت العزلة داخل الذات المشتبكة مع ذوات افتراضية أخرى.
قد يقول البعض إنه تغير في نمط المجتمع من المجتمع المادي إلى المجتمع الافتراضي، لكن هذه رؤية خادعة إلى حد ما. فالمجتمع الافتراضي يفتقد لأهم عنصر من عناصر العلاقات الإنسانية، وهو الوعي بالحواس. وعيك بالآخر ليس سمعيًا أو بصريًا فقط. وعيك بالآخر ورابط العلاقة الاجتماعية التي تربطك به هما مجموع تعاطي الحواس كاملة في منظومة علاقاتية مادية وروحية ونفسية وعقلية معقدة. حتى الوعي البصري والسمعي خلال التواصل الاجتماعي هو وعي قابل للتزييف والتلاعب وغير مكتمل التأثير. لكن الرابط المجتمعي المتكئ على علاقة منظومة الحواس هو وعي يصعب تزييفه إلا في حالات ضيقة، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة الإيجابية التي تحسن من العلاقة بين أفراد المجموعة وتقاوم العزلة.
مع صعود النمط الافتراضي بدأ حدوث تحول في أنماط العلاقات الاجتماعية، حيث تتجه البشرية إلى العزلة داخل الذات. العلاقات الافتراضية هشة لا تكتمل معها دائرة الوعي بالآخر، لكنها تتيح لنا ميزة كبيرة وهي الاختباء خلف الأقنعة المزيفة. العالم الافتراضي يمنح الإنسان شعورا زائفا بالأمان والقدرة على تغيير السيرة الحياتية والتخلص افتراضيا من شخصيته الناقصة إنسانيا ورويدا يبدأ الإنسان في كره شخصيته الحقيقية المختبئة وراء قناعه، ويعشق شخصيته الزائفة التي صنعها في عالمه الافتراضي، ويشعر بالأمان والراحة مع المجتمع الافتراضي أكثر من مجتمع الواقع ويصبح حبيس عزلة الشاشات الزرقاء.
وماذا بعد؟ لا شيء.
إن ما يحدث يبدو أنه ردة لسيرة الوجود الإنساني الأولى والعودة إلى العزلة الفردية، لكنها ردة مدججة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. حتمية التطور تضعنا أمام مأزق وجودي للبشرية كلها. لقد بدأت هذه الأزمة في التكوين، لكنها لن تكتمل إلا بعد عدة أجيال. إن العزلة تنطلق كالقطار الذي فقد سائقه، وسيبقى مندفعًا حتى يصطدم بنهاية الخط، حينها ستحدث الانعطافة التالية التي يمكن أن تعيد بناء المنظومات المجتمعية البشرية كاملة بنمط قد لا يمكننا استشرافه حاليًا.
