للعجين رائحة البركة، وللخبيز صوت الحياة وللخبز طعم الشهد. كنت أستيقظ قلقا في الثالثة فجرا على سيدة تجلس في وسط الصالة، وأمامها طست كبير من العجين، كانت يداها المُشمَّرتان تغوصان في قلب الطست لتخرج بكمية كبيرة من الأسفل، فتعيد طرحها فوق سطح العجين، وتضيف قليلا من قطرات الماء، وتنثر حبات من الملح، وهي تسمي باسم الله، وتتمتم بأدعية وأذكار وصلاة على النبي، وكأن ذكر الله والتسمية والتسبيح إضافات أخرى بجانب الماء والملح، تضفي على العجين الخير والزيادة. وتعيد أمي الكَرَّة مرات ومرات، بتقليب العجين من أسفل إلى أعلى، وهكذا حتى تكتمل الحلقة الأولى من حلقات يوم الخبيز المشهود، بعدها تغطي العجين بطبق بلاستيكي كبير، أظنه كان أحمر اللون، تاركة إياه لساعات حتى يختمر، لا أدري هل تنام أمي بعد انتهائها من العجين لتأخذ قسطا من الراحة، أم تظل مستيقظة لتنهي بعض أعمال المنزل الأخرى قبل انشغالها التام بعد ساعة أو ساعتين لتبدأ تتمة حلقات الخبيز في الصباح الباكر؟
كان الفرن البلدي داخل حدود منزلنا، وإن كان مفصولا عنه بباب خشبي مصنوع من أفرعٍ متجاورةٍ لشجرة كافور، كانت غيرَ مُحْكَمَةِ الصنع؛ بحيث يمكن لمن بغرفة الفرن رؤية من بالبيت من بين شقوق الخشب، والعكس. وكان مستوى أرضية الفرن أخفض من مستوى البيت، بحيث نحتاج إلى سلم من ثلاث درجات على الأقل للوصل بينهما، لكن هذه الغرفة الهامشية تصبح محور البيت في يوم الخبيز المشهود. أحاول الآن بصعوبة أن أستحضر مشهد الخبيز، ولكني لا أكاد أتذكر مشهدا، حتى تهرب تفاصيله الصغيرة من مخيلتي.
أستطيع أن أتذكر أمي كعمود الأساس، وأختين من أخواتي ليس من بينهما أبلة إيمان أختي الكبرى. هل كانت أمي هي التي تجلس أمام الفرن، تلقِّمه القش، وتضع الأرغفة المخبوزة بداخله، وتحركها بحديدة الفرن الطويلة، وكأنها تقلبها؟ أم أن إحدى أخواتي هي التي تجلس أمام الفرن؟ لا أريد أن أجزم بما لست متأكدا منه من أجل حبكة درامية مفتعلة. المهم أن واحدة من الثلاثة كانت تجلس أمام الفرن، بينما تقوم الأخريان بخبيز العجين بكفوفهما على “المطارح” الخشبية، فكانت واحدة تخبز الرغيف حتى يصل إلى نصف حجمه تقريبا ثم تُسلمه إلى الأخرى فتكمل حتى يصل إلى حجمه المطلوب ثم تناوله إلى الثالثة فتُلقي به في نار الفرن الذي ينضجه مضفيا على المكان رائحةً طازجةً تُغرِي الموجودين بالتهام الخبز حتى وإن كان “حاف”.
في مرحلة سابقة سمعت عنها ولم أرها، كان الفرن البلدي جزءا أصيلا من تركيبة البيت في الريف المصري. وربما أكون قد سمعت أن الفرن كان يستخدم في الخبيز، والشواء، وتجهيز الأطعمة نهارا، وكان يستخدم في النوم ليلا، وكأنه سرير ينام فوقه الزوجان. هل ظهر ذلك في أحد مشاهد السينما المصرية القديمة، أم حكت لي عنه جدتي؟ لا أدري، ولكن المؤكد أن هذه فكرة راسخة في وجداني، وأغلب الظن أنها كانت موجودة في كثير من الدور البدائية، صغيرة الحجم. فكانت غرفة الفرن نفسها هي غرفة النوم وربما غرفة المعيشة في آن واحد.
عندما كنا أطفالا، كان لنا نصيب خاص من يوم الخبيز، كانت تصنع لي أمي خصيصًا رغيفًا مملوءًا بالسكر، وأحيانا يكون هذا الرغيف مغموسا في السمن، ومصنوعا في مقلاة وليس على أرضية الفرن مباشرة، بحيث يكون أكثر احمرارا، ويصير أقرب ما يكون إلى البقلاوة. كان هذا الرغيف الذي انقرض من الوجود يسمونه “أبُّوري” وربما يكون ذلك الاسم خاصا ببلدتنا، والجمع “أبابير”، لدرجة أنا كنا نخلط بين تلك الكلمة، وكلمة “أبابيل” عندما ذهبنا لحفظ القرآن في سنواتنا الأولى، وحفظنا سورة الفيل لأول مرة، “وأرسل عليهم طيرا أبابيل”، فكنا نخلط بين الكلمتين، وكان بعضنا يقرؤها أبابير، ويصر على موقفه وينكر أنه مخطئ. ربما تسميه قرى أخرى “بتَّاو” أو “كوماك”. لكن الأبوري هو الاسم المعتمد عندنا في كثير من قرى الدقهلية، وسمعت مؤخرا بعض أصدقائي من كفر الشيخ، يقولون عنه الأبوري، ذلك المصطلح الذي أظنه لم يرد على مسامع أبنائي حتى الآن.
وقبل أن أسترسل في حكاية الخبيز، أحب أن أخبركم الآن بأني لا أنسى طعم هذا الخبز الطازج من يد والدتي، والأغرب أنني أجد حلاوته الآن في فمي. أصر صديقي أن نأكل من عمل يديه في إحدى سهرات البلكونة، كان قد أعد سمبوسة وقت الإفطار في إحدى سهراتنا الرمضانية، وقدَّم لنا صينية من الرقاق باللحم المفروم، لم يؤكل منها سوى قطعتان عند المغرب، والحقيقة أن الصنفين كانا لذيذين. ولما كانت الضيافة مخبوزات، فقد أحالتني إلى مخبوزات أمي؛ فتذكرت الأبوري بالسكر، والأبوري بالبيض، وأدركت أن تطورا هائلا حدث في الحياة، غير إن الطقوس قديما كانت تمنح الحياة بعدا آخر غير الأكل والطعم والتذوق فقط. أكاد أجزم أن طعم الكولا قديما لم يعد موجودا هذه الأيام، وأن قطعة صغيرة من البسبوسة بشلن أو بريزة من كُشْك عمي البدراوي أجمل في فمي من تورتة الأيس كريم التي اختارها عمار ابني الأصغر على هامش احتفالنا بعيد ميلاده الأخير.
الوسومالخبز العجين الفجرية الفلاحين