أفرد الله السمع وجمع البصر في قوله تعالى:” لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ” فما السرُّ في تقديم الأول على الثاني؟
السمع في اللغة هو إدراك الأصوات المحيطة بعد سماعها، وآلته الأذن، أما البصر فيطلق على عملية الإبصار، التي يتم بها إدراك المرئيات الحسيَّة بعد النظر إليها، وآلته العين. ومن هنا جاز التعبير بالسمع عن الأذن، التي هي آلة السمع، كما جاز التعبير بالبصر عن العين، التي هي آلة الإبصار.
والبصر يجمع على: أبصار، وأن السمع، يجمع على: أسماع؛ لكنه لم يرد في القرآن الكريم مجموعًا بخلاف البصر؛ إلا في قراءة ابن أبي عبلة: “لَذَهَبَ بِأسَمْاعِهِمْ”، بدلا من: “لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ”. وكذلك قرأ: “خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ” (البقرة:٧)، بدلاً من:” خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سْمْعِهِمْ”.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا، أنه مصدر- في أصله- والمصادر لا تجمع. فإذا جعِلت أسماءَ، ذَكِّرت، وأفردَت.. وأما المرجَّح فالاختصار، والتفنن بتوحيد السمع، وجمع البصر، مع إشارة لطيفة إلى أن مدركات السمع نوع واحد؛ وهي المسموعات، ومدركات البصر، أنواع مختلفة؛ وهي المرئيات؛ كما كانت مدركات القلب كذلك.. ولهذا أفرد السمع دائمًا، وجمع البصر والقلب غالبًا، في البيان القرآني،وهو سر تقديم السمع على البصر- فقيل: إنما قدم عليه؛ لأنه أهم منه، من حيث إنه يُدرَك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يُدرَك بالبصر؛ إلا من الجهة المقابلة، وفي النور دون الظلمة. وهذا ما ذكره- أيضًا- أصحاب الشافعي، وحكَوْا- هم وغيرهم- عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل؛ من حيث أن إدراكه أكمل، ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجاج من الطرفين.
والتحقيق في هذه المسألة الخلافية: أن إدراك البصر أكمل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ليس المخبر كالمعاين“. ولكن السمع، يحصل به من العلم لنا، أكثر ممَّا يحصل بالبصر. فالبصر أقوى وأكمل، والسمع أعم وأشمل. فهذا له صفة العموم والشمول، وذاك له صفة التمام والكمال، وإذا تقابلت المرتبتان، كان كل واحد منهما مفضلا، ومفضلا عليه. وبذلك يترجَّح أحدهما على الآخر بما اختصَّ به من صفات.
والله أعلى وأعلم