وصيتي للبحر جمال التلاوي
وصيتي للبحر جمال التلاوي

مجموعة وصيتي للبحر للدكتور جمال التلاوي بين جماليات اللغة وتفتيت السرد يقلم د/أشرف عكاشة

مجموعة وصيتي للبحر
للدكتور جمال التلاوي
بين جماليات اللغة وتفتيت السرد
أشرف عكاشة
قاص وناقد
توطئة :

” لا يكتسب النص كينونته إلا بين يدي المتلقي “

القصة القصيرة تعد من أكثر الفنون تعبيراً عن معاناة الإنسان المعاصر فهي متوترة ومأزومة وفي ذات الوقت ذكية ناضجة لا يصبر كاتبها ولا متلقيها على الاسهاب والتطويل فالكلمة فيها تغني عن الجملة، واللمحة فيها تغنى عن حكاية، والجزء منها يحمل خصائص الكل.

هي نفثة من البوح ، والأهة التي تنطلق من فم الجريح، والدمعة التي تذرفها عين المحزون، ركن إليها الغربيون ليعبروا بها عن وحدتهم وانعزالهم في مواجهة تغول الحياة المادية بينما اتخذها الشرقيون لتكون شهادتهم على ذلك العصر فتعبر عن اللحظة التي يلهب فيها سوط الظالم ظهر المظلوم، وتنتزع فيها اللقمة من فم الجائع ، وتنشب مخالب ذئاب هذا العصر في صدور ضحاياهم وصولاً إلى لحظة الانفجار والثورة والتمرد حتي على مستوي البناء والشكل القصصي .

ورغم النزوع إلى التكثيف في القصة الحديثة فإن ذلك لا يحرم اللغة وجمالياتها دورها التأثيري في نفس المتلقي ” فالبنية السردية للقصة نسق تعبيري يجمع بين مادتي الصورة والخبر، أي بين التشكيل والفعل، وهما ينتميان إلى جهتين مختلفتين فالتشكيل عنصر مكاني سكوني ، والفعل عنصر زماني حركي ، الأول يتطلب في القصة القصيرة أدوات اللغة الوصفية والإيحائية التصويرية الرمزية والاختزال في الخطوط والألوان والشخصيات التي ينبغي أن تكون مجرد صور، والثاني يتطلب اللغة السردية التاريخية، وهي لا تقوم على التناص بين الجهتين بل تقوم على المزج بينهما، والجمع بين عناصرهما في بنية واحدة ”

1
وتأتي ظاهرة تفتيت السرد” كظاهرة فنية جديدة في القصة الحديثة وتعني تشتيت السياق السردي، وتشكيل الشخصية القصصية على نحو تبدو معه كأنها مجتمعة من ملامح لا إنسجام بينها، فتتداخل العوالم وتتشابك الأحدات وتتسرب الشخصيات في مسالك شتى، وقد بدت هذه الظاهرة في البناء المقطعي للقصة القصيرة وتجزئتها إلى وحدات، تبدو كل وحدة وكأنها صورة منفردة مصغرة للبناء الشامل، ولا يقتصر التفتيت على الحدث بل يشمل اللغة، حيث تتسع دائرة الدلالة إلى درجة تسمح بجمع أعناق المتناظرات وتعني المعنى ونقيضه ، والمفارقة في لغة القص جزء من ظاهرة التفتيت”

2
وعبر هذه التوطئة النظرية نفض وصية الدكتور جمال التلاوي للبحر داعياً حضراتكم أن تبعدوا عن أذهانكم خصيصتين ألصقتا بالقصة القصيرة وهما القصر ووحدة البناء ودراميته ووحدة الأثر ووجود ما يسمي بلحظة التنوير كما فعل أوكونور ووافقه على ذلك التوجه الدكتور عبد الرحيم الكردي في كتابه القيم ( البنية السردية للقصة القصيرة)

مقاربة نقدية
لوصية جمال التلاوي للبحر

حين أقبلت على مجموعة وصيتي للبحر للدكتور جمال نجيب التلاوي وجدتني في حيرة من أمري في تحديد المنهجية النقدية التي تعينيني على ولوج نوافذ التأويل التي تفتحها قصص المجموعة واضعاً نصب عيني المقولة التي صدرت بها ورقتي النقدية ” لا يكتسب النص كينونته إلا بين يدي المتلقي” فوجدتني إن تتبعت مضامين القصص في منهجية موضعاتية أغمض عيني عن نوافذ التأويل المشرعة عبر قصص المجموعة فأجد قولي بأن مضامين المجموعة دارت في فلك إنسان هذا العصر الذي تتنازعه الرومانسية تارة والمادية تارة أخري وتنهشه مخالب القهر أحياناً كثيرة فتتوق روحه الظامئة للصعود إلى أعلى مستمعاً لما يقوله البحر وقبل أن تأبى روحه تلك الحياة ليأسه من تمرده وثورته عليها يملي وصيته للبحر وصية تتخلها كثير من الاسقاطات بأنواعها أجد قولي بذلك كمن يكتفي بالنظر إلى روعة البحر دون أن يجترئ على ولوج أمواجه أو الغوص في أعماقه .

وعندما راجعت المنهجية التحليلية لعناصر القص من حدث وزمان ومكان وشخوص وسرد لتطبيقها على قصص المجموعة فوجدتها قد تقودني إلى تقليدية تلك النظرة النقدية والتي قد تغض الطرف عن بعض سمات فنية حداثية لقصص المجموعة وكذلك التحليل النفسي أو النقد الانطباعي يقودني للنتيجة ذاتها وليس ذلك من قبيل المفاضلة بين تلك المنهجيات النقدية فلكل مزاياه ومسالبه؛ فعزمت على أن تكون الدراسة مقاربة نقدية لقصص المجموعة عبر محورين رئيسيين جمعهما عنوانها وهما ( جماليات اللغة ، وتفتتيت السرد ) في المجموعة في مراوحة بين التفكيك واستلهام روح المنهجيات الأخرى .

أولاً جماليات اللغة :

ما بين اللغة المجازية التي تصنع عالماً من التخييل يعتمد على الصورة سواء أكانت جزئية بسيطة أو كلية مركبة و يصنع بيئة فانتازية تمزج بين الواقعي والخيالي كما في قصة (تشكلات الفراشة) وقصة ( وقال البحر) ، واللغة الحوارية التي تكسب النص درامية وفاعلية وتمنح الشخوص واقعيتها كما في قصة ( يصعد للأعلى) وقصة ( الركب ) وقصة ( وقال البحر ) واللغة الوصفية كما في قصص ( زمن الاعتراف ، شبح ابتسامة، ظمأ الروح ، عباد الشمس، وصيتي للبحر) تتراوح لغة القص في المجموعة و تجمع القصص بين كل هذه المستويات التعبيرية للغة وتخصيصنا لنسق تعبيري لبعض القصص لا يعني تجريدها من بقية الأنساق ولكن هذا النسق هو أكثرها تمايزاً داخل هذه القصة ونستطيع من خلال تتبعنا لجماليات اللغة داخل قصص المجموعة أن نرصد تلك الظواهر اللغوية :

1-ولع الكاتب بلغة المجاز من خلال اعتماده على التصوير والتشبيه والاستعارات نعرض منها نماذج على سبيل المثال لا الحصر ” كنسمات صيفية تنتقل في المطعم ، عيناك قمران ، الفراشة الضوء الراقصة، تمر المساءات الحزينة “* ومن الصور المركبة ” سطح البحر حلقة رقصها .. ومخلوقات البحر جوقتها يزفونها – رأي أنه يسير في الصحراء وحيداً، وأن جنة من ماء وخضرة في البعيد تنتظره، ورأى أن جناحين يهبطان فيلتصقان به، ويمضي بهما عبر الصحراء في إتجاه جنته”* ،” كنت أنهل من عسل
عينيها ورأيتني أغتسل في أحداقها .. ورأيتني مرتسماً في مقلتيها”* – والصورة في ص64،65) بل صنع انزياحا وتداخلاً في الصور على نسق النص القرآني كقوله على سبيل المثال ” عيناك قمران ، شمسان، تفتحينهما مساءً ليضيئا الظلمة، وصباحاً ليشرق على الكون”*

2-حرص الكاتب على الاعتماد على الاساليب الانشائية وخاصة الاستفهام والنفي والنداء في التحكم في إيحائية ومراوغة مضامين بعض القصص.

3-كثرة الجناس بين كثير من الألفاظ وكذلك السجع وحسن التقسيم أحدث إيقاعا داخليا في كثير من مقاطع السرد في القصص مما وسمها بشاعرية اللغة.” العجوز الجالس وحيدا تحت شجرة نصف مشمسة نصف ظليلة نصف جالس نصف قائم وجهه متغضن،عيناه غائرتان، يتكئ على عرجون قديم – انخرط في الزوايا الصغيرة مع المتعبدين المبتعدين عن انشغالات الحياة، دخل الأذكار واندمج فيها، حفظ أورادها رواها وتلاها- تتغير الصحبة شهور يقضيها هائما ذاكرا عاشقا نائما في الساحات وفي الباحات”*

4- استخدام الحوار في في تعميق الرؤية التي يقدم من خلالها الكاتب مضامينه القصصية ويتجلى ذلك في أوضح صوره في الحوار في قصة ( الركب ) والذي حمله الكاتب بالعديد والعديد من الاسقاطات الاجتماعية والسياسية بعيداً الدور النمطي للحوار في كسر رتابة السرد أو الكشف عن البني المعرفية للشخوص ،
كذلك نجح الكاتب في المزج بين الحوار الداخلي وتيار الوعي لرصد الحالة النفسية المأزومة لبطلة قصته زمن الاعتراف فاكتسب الحوار فاعلية درامية ، وعاد ليستخدمه كوسيلة لتدوير السرد وملمح من ملامح تفتيت السرد كمعادل أسلوبي لتشظى الشخوص بين مطرقة الحلم والمأمول وسندان الواقع المرير في قصة ( عباد الشمس )
واستخدم الحوار في أنسنة الموجودات كملمح من ملامح الغنائية في قصص المجموعة خاصة في قصة وقال البحر .

5-التناص الاسلوبي مع القرآن الكريم سواء في صنع الصور المتداخلة كما أشرنا سابقاً أو حتى اللجوء إلى التوكيد اللفظي والمعنوي عبر التكرار للوصف أو التصوير ، وأيضا تكرار سرد الحدث عبر زوايا للرؤية مختلفة في قصة (عباد الشمس) يذكرنا بتناول القرآن لقصة سيدنا موسي.

6-وأخيراً لا يفوتنا أن نشير إلى تمسك الدكتور جمال التلاوي بالفصحي في كل قصص المجموعة حواراً وسرداً ولم تتسلل العامية إلى القصص سوى في جملة واحدة ” انت سرحانة في إيه ؟ ” * في قصة زمن الاعتراف ، بل وكان حريصاً على أن تكون لغته متخمة بالجماليات التي تمتع المتلقي والذي جعلها تقترب من لغة الشعر في كثير من القصص.

ثانياً تفتيت السرد:

قد يوجه البعض الاتهام لقصص المجموعة بالاسهاب والتطويل بمقاييس التكثيف الذي يتشدد الكثيرون في التمسك به حتى يصلون به إلى الاختزال لا التكثيف الفني وقد يذهب البعض إلى القول بتخطي كثير من القصص الزمن القصصي وذلك وفق النظرية التقليدية للقصة كل ذلك دفعني إلى الاعتماد في هذه المقاربة النقدية على رصد بعض الظواهر الفنية في المجموعة ومنها.

* تفتيت السرد :

يظهر تفتيت السرد والذي أوضحنا المقصود به في التوطئة في أوضح صور في تجزئة القصة إلى مقاطع وأصدق نموذج قصة ( تشكلات الفراشة ) والذي يصل أحد مقاطعها إلى الومضة القصصية
” الحديقة الميئة بالورود والزهور المتنوعة المتفتحة تستحيل جميعها زهرة قرنفل بنفسجية واحدة “.

وأيضاً في قصة ( وصيتي للبحر ) .

ويظهر بصورة أخرى عبر تدوير زاوية السرد عبر تغيير السارد في القصة في كل مقطع وذلك في قصة ( عباد الشمس ) ومن جمال فنية عنوان القصة أن يتماهى مع شكل السرد فكأن المضون يميل بعنقه صوب السارد كما يميل عباد الشمس بعنقه في رحلته الدائمة خلف ضوء الشمس .

وشكل ثالث لتفتيت السرد وهو استخدام فواصل الحوار سواء كان خارجيا كما في (الركب) ( وقال البحر) أو داخلياً كما في (زمن الاعتراف)
ويمتد تفتيت السرد ليصل إلى الجملة السردية نفسها فنجد الكاتب يحدث إنزياحا تركبيباً في كثير من الجمل يأتي تعبيراً صادقاً عن حالة التشتت والتشظي .

وكذلك ينبني تفتيت السرد على الجمع بين الشيء ونقيضه سواء على مستوى الجملة
“عندما أنظر إليك يصغر العالم فيصبحك، وتكبرين أنت فتصبحين كل العالم “*
” الجالس وحيدأ تحت شجرة نصف مسمشة.. نصف ظليلة .. نصف جالس .. نصف واقف”*
ويصل الجمع بين الشيء ونقيضه إلى المفردة على سبيل المثال كما في قوله
” كانت تبتسم قتمتلئ قاعة المطعم بموسيقى هادئة، هادرة، صامتة تجذب الحاضرين للفراشة المتفردة “* .

وعلى مستوى المضامين يلجأ الكاتب إلى المفارقة ليحدث الادهاش في نفس المتلقى سواء عبر النهايات المخالفة لسير السرد كما في ( ظمأ الروح ) ، أو عبر تحميل السرد باسقاطات مغايرة لظاهر السرد كما في قصة ( الركب ) أو عبر تغيير زاوية السرد بتغيير السارد كما حدث في قصة ( عباد الشمس) .

* مركزية الأنا :

والأنا التي يتمركز حولها السرد في المجموعة تتراوح بين ثلاث مستويات :
1-الذات المبدعة:
والتي يظهر بوضوح أثرها عبر الرؤى والمضامين التي تقود ناصية السرد في قصص المجموعة وظهر أثرها أيضا واضحاً وجلياً في شاعرية اللغة والحرص على جماليات اللغة.

2-الذات الساردة :

فعلى الرغم من غلبة ضمير الغائب والمخاطب على قصص المجموعة وظهور ضمير المتكلم على استحياء في بعض قصص المجموعة لكن كل أشكال الإضمار في الخطاب السردي متجمعة في يد السارد العليم الذي أختاره المبدع ليكون المتحكم في السرد وفي مصائر الشخصيات في كل قصص المجموعة والخطاب بضمير المتكلم على قلته في قصص المجموعة لكننا نجد المبدع يدعم أثره عند المتلقي عبر الاتكاء على المونولوج الداخلي وتيار الوعي .

3-الذات القارئة ( المسرود له):

والذي جعل لهذا المستوى من الأنا دوره الفاعل هو حرص المبدع على تحميل العديد من قصصه بالاسقاطات سواء السياسية والاجتماعية وكذلك فتحه لأفق نصوصه على تأويلات عدة تعلى من مركزية تلك الذات القارئة لنعود فنقول ” لا يكتسب النص كينونته إلا بين يدي المتلقي”.

وقفات:

* لجوء الكاتب إلى تفتيت السرد جعله يعتقد أن كل قصص المجموعة رغم اختلاف مضامينها يمكن ربطها بالثورة عبر أحد المقاطع لا نخفى نجاحه في صهره بشكل مباشر داخل متن القصة كما في تشكلات الفراشة وبشكل خفي غير مباشر كما في ( يصعد للأعلى، الركب ) ولكنه كذلك ظهر غير متجانس في بعض القصص منها ( ظمأ الروح) حتى وقع في أحد المقاطع السردية في هذه القصة في المباشرة والخطابية.

* القصص التي ركن فيها الكاتب إلى الواقعية جاءت فقيرة من التكنيكات السردية وتوارى فيها تفتيت السرد كما في قصة ( شبح ابتسامة، يصعد للأعلى ، زمن الاعتراف)
* ظهر الكاتب بفكره في بعض المواضع داخل القصص فعلى سبيل المثال ” وماذا بعد؟ لم تشف روحي لم أجد ما أبحث عنه، وماذا ؟ هزل الجسد من الذكر والتضرع ،ولاتزال الروح جامحة تبحث في الأفاق، هل أحتمل مثل أوديب؟ هل أفقأ عيني وأهيم في الصحراء؟ ”
فبساطة تلك الشخصية الحائرة التي تكابد شظف العيش وبحثها عن سكينة الروح لم يشر في أي موضع من القصة بأن حدود ثقافته تصل إلى أوديب ومعاناته.

* يظهر تداخل الاجناس في المجموعة من خلال المفتتح الشعري في قصة (ظمأ الروح) والايقاع الداخلي لكثير من المقاطع داخل القصص وكذلك استخدام فضاء القصيدة في بعض قصص المجموعة.
* تفتيت السرد وإن سمح للكاتب بالقفز خلال البيئة الزمكانية للقصص براشقة دون الحاجة لتكنيكات سردية زمانية كالفلاش باك وغيرها لكننا نجد بعض القصص لم يفلح تفتيت السرد في معالجة تخطيها لحدود الزمن القصصي مثل قصة (ظمأ الروح).
وختاماً نتقدم بخالص تهانينا للمبدع الراقي د- جمال التلاوي متمنين له دوام التوفيق والإبداع ولحضراتك دوام الرقي.

الهوامش:

1- التقنية السردية للقصة القصيرة د- عبد الرحيم الكردي مكتبة الأداب 2005
2- التقنية الفنية والجمالية المتطورة في القصة القصيرة أ- حسن غريب أحمد مجلة أقلام الثقافية
*مجموعة وصيتي للبحر جمال نجيب التلاوي الهيئة العامة لقصور الثقافة 2013م .

أشرف عكاشة
قاص وناقد
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو مجلس إدارة نادي القصة بأسيوط

اترك تعليقاً