صور التضمين المجازي للنصوص

صور التضمين المجازي للنصوص الدينية عند محمود توفيق قراءة نقدية في ديوان أوسع من مجاز الشعر بقلم جابر الزهيري

صور التضمين المجازي للنصوص الدينية عند محمود توفيق ، قراءة نقدية في ديوان أوسع من مجاز الشعر .
بقلم
جابر الزهيري
رئيس نادي أدب أبوقرقاص
للشعر بمختلف الصور التي تعارف عليها النقاد في جميع المدارس الأدبية، ما يميزه عن غيره من فنون الكتابة، ومن أهم هذه المميزات، التصوير بالحرف، وهو ما اصطلح عليه النقاد بالصورة الشعرية، حتى وإن وردت الصورة في الإبداعات السردية يطلق عليها (لغة شاعرة)، فالبلاغة بعلومها الثلاثة البيان والبديع والمعاني، وما اشتق منهم من فروع هم عماد تكوين تلك الأنساق الأديبة التي أطلق عليها اسم الشعر.
الصورة الشعرية تختلف من مبدع لآخر، حيث تكون بصمته الخاصة بمفردات وتراكيب تحمل من مكنون ذاته ذلك الرسم، فيجعل من رؤيته لعالم الخيال مادة يستقي منها عناصر لوحته الشعرية التي تجعل العقل مترجما للعين، فيرسم مشهدا لما يقع على الأذن من تشكيل جمالي بالحرف، حتى وإن كان مخالفا لنظريات الواقع الفرضية، أو جاء بمدلول جديد يختلف مع ما وظف له بالرمز فيما سبق ورسخ في العقل، ليجعل الشاعر المجدد ما ينسجه من مفاجآت كسر التوقع عند المتلقي هي سمة التفرد والتميز له.
وفي هذه المجموعة الشعرية نجد أن محمود توفيق قد عزف على أوتار كسر التوقع في الرمز المتعارف عليه سلفا بشكل جيد، وخاصة فيما يتعلق بالتضمين سواء اللفظي أو الدلالي لتراكيب من سياق النص القرآني، التي تحمل بالضرورة لدى المتلقي المقصد المتعارف عليه لفظا ودلالة، لكنه سبح بحرفية جيدة في الاتجاه المعاكس، ليكسر التوقع بمفاجأة المتلقي بتركيب لصورة شعرية جميلة، فمن قصيدة (صاحب الأخدود) نجده يقول:
والشمس وضياها
وكام ليلة عيشناها !!
أقسمت عليكي بالخلود
وشاهد ومشهود
الشوق كسرني وعلّني
وذلّني
يا ساكنة أخدود الفؤاد
) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ (
جحيم فيا والعني
ونار ذات الوقود
ألقي عليا محبة
يمكن في يوم أهتدي
سايق عليكي النازعات الفاتنات
ضحي بآخر جزء باقي
ولجل نصري استشهدي
واتنهّدي
***
اعتمد الشاعر على تضمين لفظي ودلالي في بعض أجزاء المقطع الشعري، لكنه في المجمل كان يسير على منهج تضمين الدلالة الرمزية برؤية خاصة تتفق مع الحالة الشعورية، وذلك ما اتضح أكثر في تضمين قصة موسى ومعجزات الكف والعصا، في قصيدة (من وحي الغياب) فيقول:
نفضت رجلي بكف موسي حين
أخرجها بالبياض من جيبه
كان قلبي نفس اللون ساعتها
طلعته مكسي بالسواد معجزة
الكل كفروا وقالوا ساحر
دي مش عصايا أهش بيها الحزن عن روحي…
دي روحي به يشِّ بيها الوحدة عن جسمي
لا بحر بيها انشق ولا فجرت ينابيع
مع كل فجر تسيب ايديا وتختفي
ترجع ف الغروب بالمعجزات من حكاوي الخلق
أشرب دموع الناس تتحشر ف الحلق
أهرب بجسمي للسما
وتخطي رجلي ع السحاب تتعاص غيوم
يضحك لي موسي
ويقول:
هات العصايا أرجعك أبيض.
***
التضمين المجازي من النصوص المقدسة ليس جديدا على الشاعر العربي على امتداد عصور الشعر، ولكن التجديد هو تلك السمة المميزة للكاتب، في تكوين صورة مشهدية جديدة تحمل من النص المقدس فكرة الرمز أو المفردة، مع التحرر من واقعية الحدث، فالكف تحول لقلب والبياض يتحول لسواد، والهش عن الغنم تحول لهش عن الروح، ولا تتم المعجزة إلا برجوع العصا لصاحبها الأصلي.
ومن قصيدة حرف علة:
هي …سر الآيات المبهمة
والأبجدية
وأنا لسه بتهجّى المجاز ف عنيها
يمكن يفيض الوحي منها
وتقولي اقرأ
بسم الجمال القاتل القادر
)ألف) ، (سين) ، (ميم(
مسحت علي وشي الغمام..، فرأيت
الكوكب الدري،
وجناح… من غير جسد بيطير
وجيوش من النور العتيق
بتلم زيت العمر من عرق الطريق
وتمر من فوق الصراط تتمخطر الخطوة
من فرط حسن البنطلون ..
زاغت عيون الملايكة …،الكاتبين
نوصفها إيه ؟
***
الاعتماد على تقسيم الكلمة لحروف مفرقة كما في بدايات بعض السور القرآنية، أراد الشاعر أن يجعله من تيمات التضمين في النص الشعري، لكني لا أجد له أي تأويل غير تقسيم الكلمة (اسم) فقط، وبدونه المشهد لن ينقص.
وكذلك في قصيدة وصايا لم يقلها لقمان:
محتاج رضا ف السكة علشان يوصلني
وأنا كل راس مالي شنطة حكم
من ماضي له خبرة ،لسذاجة الحاضر
شايل وصايا الخضر لبلاد بلا موسى
حاولت أكون لقمان ….واوصيني
لقتني مش قادر
عض “الخليل” إيدي
ساعة ما مديتها ف ضلوع السما
وسألت عن أشياء
“إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
بطلت أسأل عن وجودي من عدمه
أو إني أجادل حكمة الخالق بإزاي وليه
***
وفي النصوص التي لم يلجأ الشاعر إلى استخدام تلك التيمة الفنية، وهو ما يمثل النصف الثاني من الديوان تقريبا، جاءت الصور الشعرية _ رغم خصوصيتها _ بسيطة، لا تحمل ذلك الزخم من عنفوان النصوص الأولى، ودليل على ذلك، أن هناك قصيدتين يمكن دمجهما تحت عنوان واحد، دون أن يخل ذلك بالمعنى المقصود، بل سيكون من وجهة نظري استكمالا لما بتر من حالة شعورية تجددت تحت عنوان جديد، وهما (أنا ماشي) و(الفجر بيخبط):
القيمة ف عيونك … وف التوقيت
صدقتهم يا عبيط
كل اللي جنبكم صور، مش ناس
عوّد عيونك تنسى لو غابوا
أنا قبل منك، خدعتني نجمة بضيها
لمّت صحابها وعرّوا روحي … واتداروا
واغتابوا … وقالوا لي امشي
مشيت
ناوليني روحي من دولاب الذكريات
تحت آخر صورة لقطتها الشوارع
خايف أمِّر وروحي مش فيا .. فيقولوا مات
خايف أمِّر ف سكة عريان م الأمل
فيبان عليا اليأس
وانا غصب عني ضلوعي شفافة
وحزني زي الحب جواني
ودموعي مش متشافة
الجو ماله النهاردة مش لذيذ
كل الب ا رح بيضيق كأني بموت
مش فاهم الدنيا/ ولا حتي فاهمك
صبي لي فنجان شاي…ولا أقولك
صبي لي من همك
واخدعيني بقلبك الهلكان ملل
وارمي عليا جزء من وهمك
هاتي مشاعرك وارميها فوق صدري
يمكن تداري عيوبي

قد يهمك أيضا : رؤية خاطفة في ..( تذكرة للعودة ).. للقاص : شحته سليم بقلم : نبيل مصيلحي عضو اتحاد كتاب مصر

***
وتميز هذا الجزء من الديوان، بمزيد من الصدق الفني، فقد تحدث الشاعر عن نفسه ولها، أظهر حقيقة تلك النفس وما يتصارع بداخلها من كل المشاعر، بمفرادت الحياة الخاصة لجيل كامل يحمل ذلك الكم من المعاناة.
محمود توفيق يجيد التعامل مع موسيقى الشعر لكنه يصدم الأذن في بعض الأحيان بعودته إلى نثرية النص لينتقل من بحر لآخر أو التحرر من كل التفاعيل ولكن أرى أن يستقر على منهج محدد كمبدع سواء كان اختياره لشكل قصيدة التفعيلة فيهتم بمراجعة ما وقع فيه من كسور عروضية أو السير في درب النصوص النثرية المنتمية لمدرسة الحداثة، رغم سيره على نسق قصيدة التفعيلة، وفي بعض النصوص كان يبدأ بمفتتح من لون الرباعية (الفجر بيخبط)، وفي نص (يانصيب) اعتمد على تيمة المذهب المتعارف عليه في كتابة الأغنية.
_ الفرقة ف الطالع
_ والعشق ف النازل
_ أنا شوفت ف الطالع
_ قلبي بيتنازل
***
تجربة الشاعر محمود توفيق الشعرية في هذا الديوان، تجربة متميزة، تجمع بين عنفوان النص وتدفقه، وبين البحث عن صور غير مستهلكة قدر استطاعة الشاعر، ويحسب له التطرق لأحد التابوهات المكروه التعرض لها في الكتابة، وهو تابوه الدين، ولكنه كان على وعي بما يخط من حروف، وأكد على نزعته الإيمانية بتلك المناجاة التي جاءت في قصيدة (تحويشة)، ليبث معاناة جيله وليس معاناته الشخصية وفقط:
إلهي
لم أكن طايش
ولكن شوفتني عايش
بطير م الهم كالريشة
عدمني الصبر.. جردني من خلايا الصبر
وعرّاني بالعنا والجبر
ولبسني ثياب القبر
وانا ف الدنيا متعشم
إلهي
أنا جيتك …وناجيتك
وقلبي ذليل ومتهشم
وروحي فيا مظلومة
أنا خايف ف يوم العرض
ألاقي جيوبي مخرومة
***
في النهاية أشد على يد الشاعر الذي أنتظر منه المزيد من التطور في كتاباته القادمة.
جابر الزهيري