صالح شرف الدين يكتب| الأنساق الشعرية بين أصالة شكلها كوسيلة، ورقي مضمونها كغاية

الأنساق الشعرية بين أصالة شكلها كوسيلة، ورقي مضمونها كغاية

قراءة في ديوان :عد للحياة
للشاعرة : د . عبير زكريا
بقلم
المستشار: صالح شرف الدين
عضو شعبة الخيال العلمي باتحاد كتاب مصر
…………………………………………
الجزء الأول (1-2)
أولا :المقدمة :
هل نكتب الشعر أم الشعر يكتبنا ؟!
الإجابة صعبة ،وغير حاسمة ؛ فحتى الشعر اختلف القدماء والمحدثون في تعريفه ،فبعضهم قال : “إنه كلام موزون مقفى”
واعتبروا نظم العلم (شعرا تعليميا)
ونحمد الله أنهم جميعا اتفقوا على أن الشاعرية : (أفكار ،ومشاعر ، وخيالات ، وموسيقى)
فكيف يكون نظم العلوم كألفية ابن مالك شعرا ،ويخلو من : (المشاعر والخيال)
هذه الشاعرية (الشعرية) نجدها في مصنفات أدبية مختلفة :قصة ،مقال ،رواية ،خطبة …
ولو تأملنا مطلع خطبة الصحابي الجليل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – بعد التحكيم سنجد كل عناصر الشاعرية فيها ،يقول : “إن معصية الناصح الشفيق تورث الحسرة وتعقب الندامة ،وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ،ونخلت لكم مخزون رأيي …”
الفكرة واضحة في :اللوم والتأنيب على عصيان أمره كقائد
والمشاعر تستشف : حزن وأسى وثقة في سوء عاقبة العصاة
والخيال في :نخلت لكم مخزون رأيي
والموسيقى في :السجع :(الحسرة ، الندامة –أمري ،رأيي)
-هذه خطبة استخدمت فيها الشاعرية التي يغفلها البعض وهو يكتب شعرا …!
،وإذا تأملنا الكثير من دواوين الشعر المعاصرة نجد أغلبها تمثل حالات تنتاب الإنسان فيكتب عنها قبل أن يعايشها ،وتصدق تجربته الشعورية أو من يصحو كل يوم فيكتب ما يعن له ،وهو لا يدري أهو شعر أم استرسالات عاطفية لا ضابط لها أو من يهوى تقليد السابقين فيصنع مثلهم دون أن تكون هناك أية مشاعر تبث روح الشعر في أبياته الموزونة خليليا بدقة والمضبوطة نحويا وإملائيا باحترافية .
-نتابع كل ذلك ونتمنى أن نجد فيما نتابعه شعرا يؤثر في أرواحنا ،ويملأ عقولنا ،ونجد أنفسنا فيه فنطرب له ،ونغبط من أبدع على روعة إبداعه الذي جمع بين الفكر الراقي والإحساس الإنساني القوي والخيال المبدع وانضباط الصياغة …
-وبين الحين والآخر يقع في أيدينا ما يجعلنا نتأكد أننا مازلنا بخير ،وأن الله يصطفي من يهبه
القدرة على أن يبدع إبداعا راقيا ملتزما تزيد على يديه مساحات الحق والخير والجمال ،ويقف بحزم ضد الباطل والشر والقبح والذين قال فيهم عز وجل في سورة الشعراء :”… إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا…”
-تتوارد على ذهني هذه الخواطر ،وأنا أتابع قراءة ديوان مميز شعرا وشاعرية (عد للحياة)
،وكأننا معه عدنا إلى دوحة شعر المطبوعين من الشعراء ،وإلى مقاعد الدرس ،والموازنة بين البحتري كشاعر طبع وأبي تمام كشاعر صنعة ،والطبع أولى بالاحتفاء …
-قرأنا وتأكدنا من ملامح تفرد هذا الديوان ،وقوته ،ولكي نكون منصفين علينا أن نبتعد عن التأثيرية كمنهج ،وعن البنيوية وموت المؤلف ، ونعتمد المنهج الاستقرائي حيث :فرض الفروض ،واختبار صحة الفروض ،والوصول للنتائج -وهو منهج له أصوله العربية- ونحن نتناول الشكل والمضمون ،وسيكون ذلك وفق آلية طرح سبعة تساؤلات إجاباتها تحقق الهدف ،وتبرز النتائج المأمولة …

ثانيا : متن القراءة :
1-السؤال الأول :(عد للحياة) إذا افترضنا أنه ديوان شعر؛ فما أدلة كونه ديوان شعر ؟
-من حيث الشكل : كل القصائد كتبت على شكل أبيات الشعر العمودي ،والتي التزمت قافية واحدة لكل نص من النصوص الخمسين ،كما التزمت بحرا موسيقيا خليليا واحدا لكل نص
-من حيث المضمون :كل نص يقوم على فكرة إنسانية راقية تكونها أفكار جزئية مترابطة
نرصد منها على سبيل المثال :
ص 120 نص :على أجراس إنذار :
طغى طوفان أفكاري …على سطحي وأغواري
تخذت الشعر لي فلكا …يقيني بطش أسفــــاري
رحال العقل كم شدت… لآفــــاق وأمصــــــــار
-،ونستشف مشاعر إنسانية صادقة في كل نص تؤكد صدق التجربة الإبداعية ،ومنها على سبيل المثال:
ص 11 نص ضدان :
أنا والتكلـــــف سيدي ضــــــدان …إن لاح هذا الضد غاب الثاني
تجري البساطة والبراءة في دمي …فملامحي وسريرتي صنوان
فإذا فرحت يلوح في عيني السنـــا…وإذا حزنت أبوح بالأحزان
،وتختم هذا النص الافتتاحي ختاما قويا يؤكد عنوان هذه القراءة تقول :
لا أرجونَّ من الحياة مغانما …قلبي رضي قانع بأمــــــان
حسبي من الدنيا فؤاد شاعر …رسم الحياة بريشة الفنان
إن ائتناسي بالودود لجنــة…أسمو بها وصلا بمن سواني
2-السؤال الثاني :عتبات الدواوين تعد مدخلا غاية في الأهمية للولوج إلى عوالم الشعراء ،وسبر أغوار النصوص ؛ فما مدى نجاح عتبات هذا الديوان: العنوان ،والألوان ،والغلاف الخلفي ،والإهداء والمقدمة وعناوين النصوص ،والسيرة الذاتية – في ذلك ؟
أ-الغلاف الخلفي كلمة للناشر تضوي على رسالة الديوان والشاعرة بصورة عامة وقوية فهي رسالة إنسانية كاشفة متعددة الأبعاد …
ب-لون الغلاف (سمني ) يعكس إحساسا بالراحة ،وعلى الغلاف الأمامي صورة لشخص يفكر ،وفي رأسه عالم طبيعي متعدد العناصر ،وفي الصورة عمق يبتعد عن التقليدية والمباشرة …
ج-العنوان :(عد للحياة ) أسلوب أمر ،فيه نصح وعمق ،فيه دعوة للعودة للحياة للذات ،وللمخاطب العام (عد أنت للحياة) ،هذا العنوان يفتح أفق التلقى فالمخاطب غير معروف ،والحياة ليست كأي حياة (معرفة ) ،وهو عنوان نص ص 94 يدعو للعودة للأصالة والحضارة التي سادت قرونا ،وكأنه لا معنى لحياة بغير أصالة وحضارة ،ولنا في أجدادنا
قدوة حسنة تقول:
إنا ارتحلنا عن أصيل ديارنا = وعن التطور والمنى والواقع
لم نلتقط ما مده أجدادنا = علما مجيدا للحضارة صانــع
-المقدمة للشاعرة عنوانها (بعث جديد) يبرز جانبا من السيرة الذاتية حيث الابتعاد عن الشعر لفترة والعودة إليه ،ثم شكر وتقدير لكل من قدم معروفا للشاعرة ،وفي المقدمة شفافية ،وحكاية لواقع ،ووفاء وامتنان لنبلاء …
-التقديم للأستاذ الدكتور العلم يوسف نوفل بعنوان :(رؤية الشاعرة للعالم ) يبدأها بقوله :يصوغ المبدع رؤيته للعالم من خلال عدسة :المفكر ،والفنان ،والصوفي ،والثائر معا …
وقد تناول هذه الرؤية من خلال خمسة محاور تضوي على الإبداع ،وتقرأ ما بين السطور ، وتتأكد بمقتطفات من نصوص الشاعرة ،لتؤكد لنا عمق هذا التقديم وأهميته كعتبة غاية في الأهمية ندخل من خلالها لعوالم الشاعرة الإبداعية ،وهي :
1-في رحاب العلم
2-معاناة المفكر
3-الهروب من المادية إلى الروحية والدينية
4-النقد الهادف الموضوعي
5-اللجوء إلى الحكمة (ميراث الأجداد)
ويختم التقديم ببراعة الأستاذ المعلم يقول :إن عبير زكريا في تجربتها الشعرية تؤكد اجتماع العلم والأدب ،بل الفن والعلم داخل الإنسان وخارجه …
وتضخ عبر قصائدها رسائلها الإنسانية الحية المتمحورة حول عنوان ديوانها ،ومخاطبة الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها أن “عد للحياة”
-العناوين الداخلية خمسون عنوانا تتصل بقوة بالنصوص ،وتعد جزءا لا يتجزأ منها قد يوجد العنوان غالبا في أول بيت أو في آخر بيت ،وهو منهج يجعل العناوين تكتسب حيوية ومصداقية ،وتبتعد عن الغموض أو التحليق في عوالم ذهنية بعيدة عن كنه النصوص .
العنوان (لا تبتئس )
البيت الأول :فض الكآبة صاحبي لا تبتئس =لا يعرفن الحزن إلا من يئس
العنوان (معلمي )
البيت الأخير :تطهرت سريرتي =تخذته معلمي
-السيرة الذاتية : عتبة مهمة ،تؤكد ما جاء في المقدمة ،الديوان الأول :غيبوبة 2004م
بينه وبين (عد للحياة) 2022م ثمانية عشر عاما ،وبينهما سبعة كتب متنوعة يغلب عليها الطابع الإنساني والفلسفي ،وقناة على اليوتيوب (رسائل إنسانية )
لقد نجحت العتبات النصية في هذا الديوان في وصلنا بأنساق الجمال في قصائده على مستوى الفكر والوجدان والموسيقى والصورة التعبيرية .
………………………………
السؤال الثالث :للفنون والآداب أهداف سامية تؤطر لرسالتها الإنسانية ،وتعد معيارا أساسيا من معايير تقييم وتقويم هذه الفنون والآداب ،هذه الفنون والآداب عبر العصور سعت إلى زيادة مساحات الحق والخير والجمال ،ومقاومة الباطل والشر والقبح ؛ فهل ديوان (عد للحياة ) سعى لذلك ؟
نعم والأمثلة كثيرة منها :
جُد بالسمو وهز الأرض بي هزا =عد بالسبيل أنر بالحق والمغزى
ومنها :
عوذته باسم الذي رفع السما = من شر خلق الله والوسواس
،ولأغرست الحق في جنباته = ولأصقلن اللب مثل الماس
ومنها :
أم العلوم هي الأمومة ليتها = كالماء تسقاه النهى كأساس
يهدي الحياة كمالها وجمالها = ويشيع في الإنسان كالنبراس
بالخير أوصى بالنساء رسولنا = فلئن رُعين رَعين كل الناس
ومنها :
أين المداد من الجمال وسحره =يروي جديب النفس كالشلال
إين السماء لكي تهدهد مهجتي =وتنير في صدري وتشرح بالي
فالروح طير يضمحل بسجنه = وحياته وسط الفضاء العالي
ومنها :
لا يسلمن من الضلال سوى الألى = قد جاهدوا في الحق شيطانا لدود
وتفكروا وتطهروا وتيقنوا = يا لارتقاء النفس عن حق تزود
إن التأمل فيما سبق ،وفي كل نصوص الديوان يجعلنا نتأكد أن من سمات هذا الديوان السعي الحثيث للحق والخير والجمال …

السؤال الرابع : الأدب الذي يتجاوز الإعجاب والاحتفال به حدود الزمان والمكان أهم سماته :
الأفكار الإنسانية السامية ،والصدق الوجداني ،وانضباط الصياغة ،فما حظ ديوان:
(عد للحياة ) من هذه السمات ؟
أ-الأفكار : إن الأفكار التي تمثل عقل التجربة تؤكد البعدين الإنساني والرقي : الفخر بحسن الصفات ،لوم وعتاب ونصح للذات ،الحنين للماضي التليد ،رفض مجاراة الواقع المتهافت ،الترفع عن الدنايا والرزايا ، لوم وعتاب على التفريط في المقدس ،عتاب على الجمود والتقليد الأعمى ،بين الأنا والفروق الفردية ،نقد ذاتي للغفلة والجهل ،تقلب الدنيا والابتلاء فيها ،المعاناة تعلم المفكر ،رفض البؤس ،حكم ونصائح غالية ، الجمال بين الأمومة والطفولة ،ذم الغفلة وروح القطيع ،رفض التعقيد والتفلسف ، رفض الذل والتفريط في القدس ،مساويء التمدن الشكلي ،رفض ظلم الرجل للمرأة ،رفض الضلال ،تنبيه وتحذير ، دعوة الشباب للرقي والتقدم ،نقد سوء الأحوال ،نقد القبح ،دعوة للنهوض وترك التخلف ،مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ،تصوير النفس والضمير اليقظ ،التعمق في النفس البشرية ، تأمل في المعراج ،رثاء ولوم وعتاب ،هجر الشعر وأسبابه ،تمجيد الفكر والفلسفة ،نقد العولمة وترك الأصول ،جمال الشعر وروعته ، البحث عن الحقيقة ،حب العلم ،ترك غير المفيد منه ،
صراع الأجيال وخطورته ،نقد أحوال الأمة والمجتمعات ،رمضان وتجدد الصلة بالله ،حب الإيمان والمثاليات …
،تأمل ما سبق يؤكد الإنسانية والرقي ،الإنسانية حيث تتسع الأفكار لتشمل حياة الإنسان وحركته في كل زمان ومكان ،وأحسبنا جميعا نجد أنفسنا متماهين مع كل أو جل هذه الأفكار
وهي أفكار فيها من النبل والرقي ما لا يخفى على أحد ،ولنتأمل نص :(طوفان الورى ) :
ومنه :
الغافلون عن الحياة تكاثروا =وتأنقوا وتألقوا وتفاخروا
طوفانهم جرف الخلائق كلها =إلا الذين من القطيع تحرروا
إلا الذين تعتقت ألبابهم = من أسر وهم للسرائر يسحر
،في نص (لو لم أكن) تقول :
لولم أكن لتفاوت متقبلة =لرصدت في كل اختلاف مشكلة
لو لم يكن كنز القناعة قبضتي = لمضيت في درب الرغائب سائلة
لو لم أدرب في الحياة وعسرها = ما كنت أنجح عند حل المسألة
ب-الصدق الوجداني : هو صدق المعايشة ،ونضج التجربة ،وهذا الصدق
قلب التجربة النابض الذي يضيف إليها الحيوية ،ويبث فيها دماء الحياة النابضة
من خلال أحاسيس ،ومشاعر ووجدانيات ،وهذا الصدق نجده في الديوان كنص كبير ،وفي القصائد ،وفي الأساليب ،وفي الجمل ،وفي تآلف الحروف معا ،نجده في النسق الظاهر في روعة الخيال الجزئي والكلي والممتد ،وفي الضمائر الظاهرة والمتصلة ،وفي الأمر ،والنهي ،والنداء والاستفهام…
ومن الأحاسيس التي فاضت بها النصوص :الثقة في النفس ،الحزن والألم ،الدهشة والتعجب ،حب الفضائل ،وكره الرذائل ،الخوف وترقب المجهول ،حب الخير ،الأمومة والشفقة ،حب البساطة ،الغضب الفرح السرور ،حب الرسول ،الفخر بالنفس والثقه فيها وفي الخالق ،حب العلم وحب الإيمان …
في نص (رسالة) تقول في ثقة :
لكنني مازلت حيا مبصــــــــرا = لبي تسمـــــــع قولكم واكتاله
وسواعدي ستطال مالم تحسبوا =وتهد في عسر الزمان جبالة
لا تستهينوا بي ،وتلك رسالتي=ولسوف أرسم في الوجود جماله
،وفي نص خلف الصدر والغرة تقول :
لقد أوغلت خلف الصدر والغرة = لأكشف جوهري المطبوع في البذرة
هممت أفض سر النفس في وجل =وفي ضعف الجهول رجعت مضطرة
ورحت أعــــــاود الإقدام إيمـــــانا = لعلي أُصطفي بالتاج والــــــــدرة
ج-انضباط الصيغة التعبيرية : للصيغة التعبيرية أهمية كبرى فعن طريقها يصلنا الفكر والإحساس ،ونجاحها في ذلك دليل قدرة الشاعر على حسن التعبير عن فكره ووجدانه ،وفي الشعر تسري في الصيغة التعبيرية : الأفكار ،والمشاعر ،والخيال ،والموسيقى ،وقد تميز هذا الديوان بصيغة تعبيرية منضبطة على مستوى الكلمة والجملة والأسلوب :
لنتأمل نص (المشاكس ) :أربعة أبيات :
هلالي يهلل وقت السحر =وعند الغروب وتحت المطر
يشاكس صبحا وظهرا وليلا = وحين أصب لديه الدرر
أقول له أنت نور الحياة = وأنت الشموس وضوء القمر
فيرنو إلى لوحة بالجدار =يقول :انظري ،فالإطار انكسر
…………………………………
السؤال الخامس : في أنساق أي ديوان قوي جديد يتفرد به بين الدواوين ،فما الجديد في أنساق عد للحياة ؟
أ-من حيث الشكل والمضمون : رغم الشكل الكلاسيكي حيث الوزن الواحد للنص والقافية الواحدة ،فقد تجاوز المضمون الكلاسيكية فنرى في كل نص مدارس شعرية ثلاث :
الكلاسيكية والرومانسية ،والواقعية ،وذلك من أهم مميزات (عد للحياة )
الكلاسيكية في الوزن والقافية والتصريع ،والرومانسية في حرارة العاطفة وقوة الإحساس والحزن المسيطر ،والواقعية في تناول مشكلات الواقع ومحاولة حلها
،فعلى سبيل المثال لا الحصر نص من أطول النصوص :(تلوث ) يعالج التلوث البيئي والبصري ،والأخلاقي ،ويعالج نوعا جديدا من التلوث (التلوث الإبداعي) :
والبال غطــاه الغبار مكثفـــــــا =ليحيد مجرى القول والفكر السديد
وقريحة الإبداع حين تأكســـــــدت = كف عن الاتيان بالفذ الفريد
من ذا الذي وسط العوادم ينتقي = لفظا يؤذن في المسامع من جديد
ب-حجم النصوص : في الديوان تسعة نصوص لم تصل إلى سبعة أبيات،
وهو عدد أبيات أقصر قصيدة ،وفي ذلك إشارة إلى عدم الرغبة من الشاعرة في صناعة الشعر فهي تتوقف عندما تنتهي الدفقة الشعورية التلقائية ؛فإذا امتدت طال النص ،وإذا لم تمتد صار النص قصيرا ،والتزام الطبع والشاعرية مما يحمد للشاعرة في هذا الديوان ،ومن الجديد الذي يجعل وقع النصوص على النفوس مختلف ،وعلى الرغم من أن بعض النصوص القصيرة جاءت ثلاثة أبيات ،فقد التزمت الشاعرة فيها (التصريع) وهو قافية بين شطرتي البيت الأول وهي من أسس القصائد العربية الطويلة التي كانت تمتد لأكثر من مائة بيت ،وهذا التصريع من الموسيقى الظاهرة القوية في الشعر العربي تقول في نص (يكفيك):
يكفيك ملء القدر والمعدة =لا تبصر الأيام مرتعـــــدة
ولتسند الرأس العليل ونم =لا تلتفت للنـــــار متقــــــدة
لا شيء في تلك الحياة يهم =إن الجموع تتوه محتشدة
ج-الموسيقى الظاهرة : رغم الانضباط الشديد في الوزن الواحد والقافية الواحدة
واستخدام شديد الدقة لموسيقى سبعة بحور صافية ومختلطة ،فهناك صورة لبحر الوافر جديدة (ثلاث تفعيلات تامة في كل شطرة) وفي أكثر من نص ، وهذا شيء إيجابي ،وتجديد نعتبره محمودا ،فلا قداسة لموسيقى الشعر ،والإشارة الإيجابية في ذلك كون الفكر والإحساس أهم ،فكل النصوص الشعرية التقليدية إذا ترجمت لم يبق منها إلا الأفكار والمشاعر ،فقوة هذه الافكار والمشاعر هي ما تجعل الشعراء المجيدين والمتمكنين يأتون باشكال جديدة لموسيقى الشعر دون حرج لأنهم لا يكتبون أشعارهم للعروضيين ولكن يكتبونها للناس جميعا ، وكما تقبلت ذائقة الشاعر هذا التجديد الموسيقي ،تتقبله الغالبية العظمى من المتلقين تقول الشاعرة في نص عبودية :
يطوف الناس في كهف العبودية = يظنون انتقال الخطو حرية
وأن الركض في الطرقات يحييهم =بلا مغزى ولا هدف ولا نية
…………………………………………….
د-الموضوعات : الجديد في الموضوعات رغم التزام الشكل التقليدي أن هناك شعبوية واضحة في بعض النصوص مثل :(لمبة جاز ،طعمية) ،وهناك نزعة علمية تعالج بشاعرية مثل :(كربون ، مضاد الأكسدة ،تلوث ،حمض نووي)
وتسري هذه الروح الشعبوية العلمية الراغبة في الإصلاح والاستقامة في كل قصائد الديوان إذا لم نجدها في النسق الظاهر ،سنجدها بعد تأمل في النسق المضمر ،وقد تغلبت حرارة العاطفة وقوة الشاعرية على جفاف المسائل العلمية ،تقول في قصيدة :(كربون )
بكى الكربون من ظلم القوافي = أتلفظه البحور بلا اعتراف
أما من حقه يمضي بفـــــلك =يجدف في قصيدي باحتراف
كعبد أسود جرنا عليـــــه =صفعنا وجهه دون اقـــــــتراف
…………………………………………
6-السؤال السادس : لكل ديوان عمق فكري وفلسفي يميزه ،ويسري في ثناياه،
،فما ذلك العمق في ديوان (عد للحياة) ،وكيف نصل إليه .؟
-دائما تقودنا الأنساق الظاهرة إلى النسق المضمر كلما تأملناها ،وأحسب أننا إذا تأملنا نصوص الديوان وسألنا أنفسنا: ما الذي يجمع بينها ،ويسري فيها دون استثناء واحد ، ويشمل النصوص الخمسين ؟
سنجد:
أ-العقل والعقلانية ،والنقد الموضوعي على المستوى الذاتي والاجتماعي والإنساني ،وإدراك أن للشعر والفنون دور مهم في علاج مشكلات الواقع ،وجعل الحياة أكثر انسجاما مع الهدف الأسمى لخلق الإنسان :(عبادة الله ،وعمارة الأرض )
ب-في النسق المضمر إيمان بكون الشعر والشاعرية وسيلة لجعل الحياة أكثر انضباطا وأكثر عدلا وجمالا وراحة للإنسان ،ولأن الشعر وسيلة لا نجد نصا دون هدف محدد يسمو بالإنسان ،ويحذره من كل ما يضله ،ويبعده عن إنسانيته ،ومهمته التي خلق من أجلها ،وهذه الحقيقة المضمرة صارت عنوانا لهذه الدراسة رغبة منا في أن يكون العنوان مهيمنا على كل الرؤى :
الأنساق الشعرية بين أصالة شكلها كوسيلة، ورقي مضمونها كغاية
……………………………..
7- السؤال السابع :الموازنة بين الشعراء تقوم على أسس معيارية ،فكيف يستفيد منها الشعراء المجيدون ؟
إن أهم أسس الموازنة: المستوى الفني للنص الأدبي ،ويصل لقمة المستوى الفني الكثير من الشعراء ،والأساس الثاني :غزارة هذا الإبداع الفني الراقي ، ثم يلي ذلك الأساس الثالث : تنوع الإبداع الفني الغزير ،والأساس الرابع والأخير :الابتكار ،والجديد الذي أضافه المبدع للمشهد الأدبي ،فعلى الشعراء إذا وصل شعرهم إلى قمة الشعرية ألا يصيبهم الغرور ،ويواصلون الإبداع والتجويد ،ويجتهدون في أن تتنوع إبداعاتهم ،ويحرصون على الاطلاع على تجارب الرواد ،وأن يحرص كل مبدع على أن يقدم جديدا ليتقدم الشعراء …
…………………………………………
ثالثا :في الختام نقول :إن ديوان (عد للحياة ) مازال يستحق من التأمل الكثير ؛ويستحق أن يتناوله الأكاديميون بدراسات على مستوى( الماجستير والدكتوراة ) من حيث الشكل والمضمون ،ولأن الآداب تصنف من حيث نوع الموضوع لا نوع الكاتب ،فإن هذا الديوان يؤكد أنه أدب إنساني بامتياز ؛ فموضوعه الإنسان وقضاياه المعاصرة ،فأدب الطفل يتناول الطفل وقضاياه ،والأدب السياسي يتناول السياسة وقضاياها ،وأدي المقاومة يتناول المقاومة وقضاياها …
وهذا الديوان لا يتناول المرأة وقضاياها بل تنداح دائرة موضوعاته وتتعمق لتشمل قضايا الإنسان والإنسانية برؤى عقلانية وفلسفية ،وصياغة شعرية مميزة ،وإذا كان للكاتب حضور في كل ما يكتب حفلا يعد حضوره ولا تعد بصمته إلا عتبة من عتبات كثيرة تساعدنا على استيعاب مضامين إبداعه …
ولنتأمل هذه الأبيات التي تقف على درجة واحدة في أعلى سلم الإنسانية رغم البون الشاسع بينها مكانا وزمانا :
1-حسبي من الدنيا فؤاد شاعر =رســـم الحيــاة بريشة الفنـــان
2-سجية تلك فيهم غير محدثة = إن الخلائق فاعلم شرها البدع
3-ولولا كثرة الباكين حولــي =علــــى قتلاهم لقتلت نفســـــي
4-وليس بعامـــر بنيان قــــوم =إذا أخــــلاقــهم كانت خـــرابا
5-دعوني أسبر الأغوار شعرا =لـــــكل الكون تتسع القوافـي
6-وحــبك كان محراب المصلى =كأني قد بلغت بـــك السمــاء
-لا أحسبنا للوهلة الأولى نستطيع أن نعرف نوع الشاعر إذا لم يسبق لنا
الاطلاع على النصوص التي منها هذه الأبيات …
،البيت الأول والخامس للشاعرة عبير زكريا ،والبيت الثاني للشاعر المخضرم حسان بن ثابت رضي الله عنه ،والبيت الثالث للشاعرة المخضرمة الخنساء ،والبيت الرابع لأمير الشعراء أحمد شوقي ،والبيت الخامس للشاعرة عبير زكريا ،والبيت السادس للشاعر الطبيب إبراهيم ناجي …
-لقد جمعهم بحر واحد (بحر الوافر) وجمعتهم الإنسانية ،وعمق الشاعرية حيث :
الفكرة الإنسانية الراقية ،والإحساس الصادق ،والخيال المبدع ،وانضباط الصياغة الشعرية …
-نتمنى كما زاد هذا الديوان (عد للحياة ) من مساحات الحق والخير والجمال أن تكون قراءتنا قد تماهت مع هذه الغاية النبيلة للآداب والفنون ، ونسأل الله توفيقا وسدادا ،ومغفرة ورحمة تشملنا ،وتجمعنا بمن نحبهم في مستقر رحمة الله عز وجل …
الجيزة –مصر
يونية 2022م