جولة في بساتين ” سِلفي مع الروح ” للكاتبة عبير العطار : رؤية سعاد الزامك


ما هي الروح ؟ و ما الفرق بين الروح و النفس ؟
بالبحث في معاجم اللغة و القرآن الكريم نجد أن كلمة “روح” استخدمت بلفظها المفرد و الجمع ، و قد جاءت في معنى الكيان المجهول للإنسان التي نفخها الله فيه ، و تُطلق كذلك على صاحب علم و فضل ، و عن الروح الأمين جبريل .. بينما النفس معانيها كثيرة جداً و من معانيها الروح .
إذن فالروح لا ندري ماهيتها و لا يستطيع أحد أن يفقهها أو يتحدث فيها ففي الميتتين الكبرى “الموت” ماذا يفقد الإنسان ؟ و الصغرى “النوم” ماذا يفقد ؟ يقول العلم في الموت تعطلت جميع الأجهزة ، ولكن عندما ينام لا تتعطل الأجهزة فبعضها يعمل وبعضها يخفت .. فالعين إذا أُغمضت لا ترى أما المعدة و الدماغ و خلاياه تعمل . فماذا فقد الانسان ؟ هذا نوع من التحدي الى قيام الساعة أن الانسان لن يستطيع إدراك ماهية الشيء المجهول الذي يغادر الإنسان . كذلك هناك فرق بين الحياة و الروح حيث لا تستطيع أن تقول أن الجنين في بطن أمه ليس حيّاً بل هو حيّ والنائم حيّ . الجنين حيّ ثم تُبثّ فيه الروح .
ما مفهوم الروح بالنسبة للكاتبة عبير العطار ؟ و ما علاقة الروح بالجسد و النفس ؟ و كيف ستلتقط مع الروح صورة ” سِلفي ” ؟ أسئلة كثيرة تحث القارئ على إيجاد أجوبة تروي ظمأ المعرفة فيهرع للديوان طواعية كي يبحث عن الأجوبة ، و كنت ممن شغفن بالسعي و الاجتهاد في قراءته طمعا في فهم معطيات الكاتبة و مشاهد نصوصها .
و ما أن لامست يداي ديوان ” سلفي مع الروح ” للكاتبة عبير العطار و تجولت عيناي بين سطوره حتى التهب شغفي للقراءة للإلمام بكوامنه ، و بلوغ مضمون نصوصه . شاهدت القطوف الدانية من أفنان بستانه و كلما التقطت ثمرة حتى دفعتني ذائقتي لالتهام ثمرة أخرى و كل منهن تمتاز بمذاقها الخاص و المتميز عن مثيلاتها و إن اختلفت المعاني و المضامين . فلتسمحوا لي أن أعرض عليكم بعضا مما احتسيته من شهد ذاك الديوان الذي لا ينضب معينه للكاتبة المتميزة عبير العطار بعيدا عن النقد الأكاديمي التقليدي .
العنوان ” سِلفي مع الروح ”
عنوان ثري المعني متنوع المفاهيم يُثير ذهن القارئ للتفكر في فحواه .. فكلمة ” سيلفي ” لفظة غير مألوفة في معجمنا العربي بل هي مستحدثة و ترجمة لكلمة أجنبية“selfie” تُتداول كثيرا في عصرنا الحالي و المقصود بها صورة شخصية أو التصوير بواسطة الشخص نفسه . تلك الصورة التي غالبا تُلتقط بين الأصدقاء المقربين .. أكانت ( الروح ) تلك الصديقة الحميمة هي روح الكاتبة أم روح الحبيب المستعمر لروحها ؟ فمثلا في نص ( إطلالة روح ) تتحدث مع روح كانت لها السند وقت اليأس و الملاذ وقت الميلاد المؤجل و المداوي وقت الوجع .
هنا يتساءل القارئ هل عمدت الكاتبة إلى أسلوب السريالية الفنية حيث جمعت بين واقع و خيال لشيئين يتضادان في المعنى و الشكل و المضمون ؟ فالصورة التي نحتفظ من خلالها بذكرياتنا بحلوها و مرها شيء مادي و ملموس أما الروح التي نفخها الله في عباده منذ الأزل غير ملموسة و مجهول كنهها لإدراكنا البشري إذن هي شيء معنوي بحت ؟ ماذا أرادت أن تلفت اهتمامنا إليه بهذا العنوان ؟ هل أرادت الانفراد بذاتها في صورة حسية ترسل من خلالها همسات و نبضات إلينا من بين سطور النصوص ؟ هل الروح بديوانها هي الروح التي أودعها الله في الإنسان لتظل من أسرار الخالق وحده أم الروح التي بمفهوم النفس ؟
ألمس في اختيار العنوان شجاعة أدبية لا تصدر إلا من كاتبة واعية ذات رصيد ثقافي كبير و مرجعية فلسفية أصيلة .. فمن ذا الذي يُشخصِنْ الروح حَدَّ التقاط صورة معها ؟ فالمادي و المعنوي لن يظهرا بالصورة و لكنها صيغة مبالغة للتعبير عن الحميمية بين الكاتبة و الروح سواء كانت روحها أو روح الآخر .
في بداية جولتي بعد محاولة فهم عنوان الديوان و سبب اختياره وجدتني بين سطور الإهداء و هو أول لقطات الديوان و التي أعتبرها روح الديوان حيث التقطت عبير العطار “سِلفي” مع الروح التي سكنتها فحولتها إلى نبوءة للتائهين و قدمتها مهرا للمحطات اللقيطة و من هنا نتيقن من أن الكاتبة انصهرت في بوتقة الوجع التي أذابت كيانها الآدمي و أحالته لنبوءة و مهرٍ .
“إلى الروح التي سكنتني
حتى أحالتني نبوءة للتائهين
ألبستني أجنحة الذهول
و قدمتني مَهرا للمحطات اللقيطة
أسكبُ محبرتي لترتعشَ الحكمة
و أدقُّ أجراس الانتصار على محطاتِ الخيبة
فأمنحُها أسرارَ الصعود”
لم تكن ال “سِلفي” إذن صورة حسية بل كانت معنوية بحتة حيث جمعت بين “همسات” الكاتبة إلى “الروح” و كلاهما معنوي و إن تم توثيقه على الأوراق كمشهد سينمائي حملته بالأحاسيس النابضة في ذلك الوقت سواء كانت مشاعر ( حُب أو لوم أو انتصار للذات … إلخ ) ، فنجدها كلما أُتخمت نفسها بالخيبات و الصراعات و اليأس و الضعف لا تجد صديقا حميما سوى الروح لتكون ملاذها الأمين الذي يحتويها و يُربت على أوجاعها و يقدم لها المدد كي تستعيد هدوء النفس و بريق الروح .
و قد وضحت عبير العطار أسباب الحميمية بين الجسد و الروح حيث أجابت على جميع الأسئلة في سبب اختيار ” سِلفي” مع الروح عنوانا لديوانها ، و كانت الإجابة في نص بنفس العنوان “سِلفي” مع الروح و إن كانت الإجابة في أسئلة طرحتها بالنص بعضها استفهامي و الآخر قد يبدو تهكمي أو استنكاري و إن كان تقريرا .. حيث بدأت نصها فقالت :
ماذا لو التقطتَ لنفسكَ صورةً
“سِلفي” مع الروح
تُرى أَسَتُعْجِبُكَ ؟
تُرى ماذا رأيت ؟
مَن سيخبرك بما
تخفي في ثنايا الروح من عذاب”
إنها الروح التي تخفي بين ثناياها العذاب و تطلع على القروح و تزيح الخوف الراكد على المشاعر لتُعيد إحياء القلب فقالت :
“مَن سيزيح طبقةَ الخوفِ
الراكدةَ على مشاعرك
مَن سيُعيد إحياءَ قلبك
ليمضي بلا تجاعيدَ”
كذلك تُوقن أن بإمكان الروح أن تُعيد ترتيب حروف القصيدة المهجورة فقالت :
“مَن سيدقُ أرَقُه مشاعرَ وجدٍ
تختالُ في قلبك
مَن سيعيدُ ترتيبَ الحروفِ
في قصيدتِكَ المهجورةِ
كذلك تُظهر العلاقة الروحانية بين الجسد و الروح إذ تقول :
مَن سيتلوكَ صلاةً في محرابِه
كلما التقتْ الأرواح
على أكفِّ السماء”
إلى أن تجيب بحتمية اندماج الصديقتين الحميمتين في النهاية حيث تقول :
“مَن سيصيرُ حتماً أنت
روحٌ على روحٍ ؟”
لكل صورة عناصر أساسية ثلاث ( الأشخاص ، الزمان ، المكان ) و في “سِلفي” هذا الديوان الذي بين يدينا نجد أن :
١/ الأشخاص : هم الكاتبة و الروح و الآخر كما ذكرت من قبل .
تقول عبير العطار في الإهداء :
“و قدمتني مَهرا للمحطات اللقيطة” و قد شخصت المحطات اللقيطة عريسا و جعلت من نفسها مهرا مهرته الروح لتلك المحطات .. صورة غير اعتيادية بل من أروع الصور التي امتاز به الديوان .
و تقول الكاتبة في “حديث الودع” :
“المحطاتُ القديمة تراهن على خيبةٍ قادمة” هنا أيضا شخصت المحطات القديمة و قد راهنت على خيبة قادمة لتعبر عن يأس تأصل بروحها بسبب خيبات الماضي .
و في “نصف حالة” تقول ”
“و يشقُ قلبي نصفين
نصفاً يرجُمُني و نصفاً يخدع وحدتي
و أقرانَ جدراني الأشباح”
و قد شخصت نصفي القلب المشطور فأحدهما يرجمها و الثاني يخدع وحدتها ، و صورت الثلاث ظلال ( ظلها و ظليّ قلبها المنشطر ) كقرناء يتخايلون كالأشباح على جدرانها .
و في “قالت هيت لك” تقول :
“قبل أن نولد من رحم لذةٍ لا تهجع”
حيث جسدت اللذة بشدة ثورتها و استمراريتها بالذي لا يهجع و لا يأوي للراحة بل و جعلت منها أم تضم في رحمها الحبيبين من قبل أن يولدا .
٢/ الزمان : و يختلف من صورة لأخرى فتارة المغيب و تارة الصباح أو المساء و تارة الزمن المطموس و أخرى زمن الميلاد المؤجل و غيرها من مواقيت ، و أحيانا تغزل علاقة ببراعة بين الليل و النهار مثلا لتقدمهما في رداء حديث فمثلاً :
في “أنا مع وقف التنفيذ” تقول :
“تختصر ليلَكَ بنهارٍ متسللِ الذكريات”
و قد عكست واقعا نحياه جميعاً حيث اختصرت الليل برغم طول توقيت الألم و تسللت ذكرياتها إلى النهار الذي بشرع البشر للعمل .
و في “لا راحة” تقول :
“أوهامٌ تسكنني أغرق في نجومها
تُعيرني نهاراً ملتحما بالليلِ الطويل”
تعود الكاتبة من جديد إلى ربط الليل بالنار في ملحمة استثنائية حيث تعيرها الأوهام بالتحامِ نهارها بالليلِ .
و في “قالت هيت لك” تقول :
“تهمِسُني ليلاً و أهمسُكَ نهارا”
لتعقد مقارنة بين همس الحبيب و همساتها فهو يهمسها في غياهب ظلام الليل و في الخفاء بينما تهمسه نهارا في وضح النهار و في العلن .
٣/ الأماكن متنوعة و متغيرة حسب طقوس المشهد فمثلا في نص ( أنا و أنت ) تم التقاط الصورة على شاطئ البحر و قد داعبت همهمات البحر خصلات شعرها فتقول :
“أنا و أنت
و همهماتُ البحرِ النازحةُ على خصلاتي
تستعيد معي زفراتي
النازحةَ هي الأخرى مع النسيمِ
و تستنكرُ نظراتِ العالمين”
ثم تنتقل بالمشهد إلى شطوط الاستقرار حيث تقول :
“أنا و أنت
و شطوط الاستقرار
تأخذك الضفة
إليها في احتضان
و تقذف بي للضفةِ الأخرى
في احتضار
و كأنَّ الحياةَ استعجلت
نهاياتٍ لا تبتدئ”
ثم تنتقل بسبب المتضادات المتراقصة على كأس نبيذ و قد أسكنتها ظلها على جدار الوجع فتقول :
“أنا و أنت
على كأسِ نبيذِكَ
الذي تحتسيه من بعدي
فوحدي أجُدُني على جدار الوجع
أسكن ظل”
و أخيرا تحلق في فراغات الكون إذ تسحب البساط من تحت روحها تقول :
“أنا و أنت
و فراغاتُ الكونِ المحلقةُ حولي
تبعدك و قد تقترب
لكنها تسحب البساط من تحتِ روحي
حتى أهدأَ”
تعددت الصور و التراكيب الرائعة التي تُمتع القارئ و تُشبع شغفه للجمال ، سوف أذكر بعضا منها كمثال و ليس كحصر .
فمثلا تقول الكاتبة في “انتقام مضاد” :
“تحيل الجسد إلى قطعِ فَخَّار
يستحيلُ معها الذوبان
و يعجزُ عن العودة لطينه
لكنه يقتبسُ من الحياة فرصةً
تتساقط لها قطراتُ الروح
عائدةً لتُدمجَ أعراقي في أعماقي
ترفعُ ريشةَ الانتصار
و تهذي وحدك صامتا
لستِ ككل النساء”
و قد نجح الانتقام في تحويل الجسد إلى قطع فخار يعجز عن العودة لصورته الأولى (الطين) فيدفعه ذلك إلى اقتباس فرصة من الحياة عندما تتساقط قطرات الروح لتدمج أعراقها في الأعماق ، عندئذ فقط يُعلنُ الانتصارُ بإقرار العاشق بكونها “ليست ككل النساء” .
لي مأخذ وحيد على الديوان حيث قالت في نص “لا راحة” :
“دمعتي قد فاض حزنُها”
و قد ذكرتني ب”دمعتي ذابَ جفنُها .. بسمتي ما لها شفاه” للرائع (كامل الشناوي) فكلاهما تعبران عن الحزن الشديد و لكل منهما مذاقها الخاص ، و إن كانت عبير العطار قد صرحت في صورتها بالحزن بينما أذاب الدمع الأجفان لدى (كامل الشناوي) ، لذا أرها قد خانها التوفيق بسبب المباشرة و التصريح .
بينما قالت في “وقت الهجير” :
“تجهش أحزاني ، تذرف وعوداً منسية”
صورة أروع من سابقتها و قد وفقت الكاتبة في التعبير عن شدة الحزن دون مباشرة في الوصف و التصوير حيث أجهشت بالبكاء و ذرفت بأسباب حزنها “وعوداً منسية”.
تميز الديوان بمفرداته السلسة و صوره الفريدة الغير مسبوقة فللكاتبة عبير العطار أسلوب مميز في اختيار الصور و المفردات لتصيغ منها نصوصا دُرية تخطف قلب المتلقي قبل بصره ، و قد وضح جلياً شغف الكاتبة بالموسيقى و الألوان و الفلك و الطبيعة فغاصت في عوالمهم لتلتقط أجمل مقوماتها لتطرز بها نصوصها التي برق سناها بتألق المعاني .
هنيئا لكل من اقتنى ديوان “سِلفي” مع الروح و من لم يكتف بالاحتفاظ به بمكتبته الخاصة فقط و لكن حاول التقاط صورته ال “سِلفي” مع الروح ليُكاشفها بحالاته و تُصارحه بمكنون ثناياها ليتصالح معها و يعيشا صديقين حميمين إلى وقت ميلادهما المؤجل ( كما صورته عبير العطار ) فكل منا في أمس الحاجة للتصالح مع روحه و عالمه الخاص . شكرا للأديبة عبير العطار على ما شاركتنا به من أحاسيس و لقطات و ما زودتنا به من حكمة يفتقدها البعض و في انتظار القادم من انتاجها الأدبي المتميز بإذن الله .
#سعادالزامك
10/9/2017

اترك تعليقاً