المكان واثرة فى حياتى

المكان واثرة فى حياتى ( بوح ببعض ما تملكه الذاكرة )

المكان واثرة فى حياتى ( بوح ببعض ما تملكه الذاكرة )
نشر بمجلة الثقافة الجديده
البيت … تلك الحجرات الضيقة الفسيحة فى قلبى … هذا البناء الواهن السامق المتناه فى الصغر … والشاهق فى ذاكرتى الطفلة … كل شق فى جدرانه وكل حجرة فيه …كل بيت بجواره يتكئ عليه … بيوت الشارع كلها تذكرنى بلحظات النجاح والانكسار … هنا كلنا … اصحاب مكان عندما تنفست هواء القرية مساءا عند عودة الاغنام والابقار من الحقول ورائحة اورق البرسيم الاخضر المحمل بالاوكسجين النقى مع نسمة العصر … جلساتنا قبيل المغرب امام المنزل مع الاصدقاء وشاى العصر … صوت عبد الوهاب الخارج خلسة من راديو قديم على رف متهالك على جدار يستر عرى المنازل الفقيرة …
وكأن أمى لم تزل بالبيت تطهو لى عشائى
وتحدث الجيران عن شعرى … ويعجبها غنائى
مازال جوربها الحريرى القديم يشد رأسى
ويفوح من حنائها عطر يهدهدنى…
كأن الوقت أوقفه بكائى
يساقط الماء الطهور مع وضاحة وجهها
وكانها بالبيت تغسل لى ردائى
النور فى جدران غرفتها يسامرنى
ويشد من أذرى
ويدخلنى هنا ويلح فى ابقائى
خدر خفى شدنى لسريرها
كم لملمت اركانه أعضائى
جدران بيتك زلزلت يا أم كل جوارحى
وكأن أسقامى هنا ودوائى
وكاننى الطفل المدلل لم يزل
محمومة روحى وقلبى واهن
فتقايضين البيت رهن شفائى
مازلت اخفى فى شقوق البيت بعض سذاجتى
أوراق نقد / دبلة فضية
وقصاصة دونت بين سطورها اشيائى
وكأن قطتها التى نامت على يدها هنا
تبكى على وهنى
تثير بكائى
مازال شق بالجدار يضمنى
طلا ينادى وحدتى وشقائى
قنينة الزهر القديمة هاهنا
عطشى كروحى … رثة كغطائى
أمى اجيبى
أين انت …. أسرعى
بنطالى الازرق اين ؟؟؟ تمهلى
مفتاح بيتك …. أينه ؟؟
وشقيقتى الصغرى تلمع لى حذائى
محفورة فى عظمة الشباك بعض سفائنى
وقوارب ثكلى … وقلب حبيبى
سهم تقاطع والهوى ما بيننا
ورفيقتى بجوار بيتك تستبيح عناقى
البيت بيتك مثلما عودتنا
والجرح جرحى
والبكاء بكائى
وانا الملم ما تبقى من دمى
القى ببعض قصائدى
عل الحبيبة تستعيد غنائى
فتعيد بعض رسائلى الحرى لها
هل تتركين البيت رهن حبيبتى
والبيت يستر خوفها وحيائى
وتفوح من بين القصائد لهفتى
انت الحبيبة
والحبيبة هاهنا
العشق بعد رحيلكن شقائى
منحدرات النهر / لانك ارضى ولانى نيلك / العصفور / تداعيات الى النهر / هذه العناوين وغيرها هى لبعض اصدارتى الشعرية والتى لم تأت صدفة .. وانما صاغتها داخل عقلى اللا واعى تلك المفردات التى عشتها واعيشها منذ طفولتى والتى رسمت دون وعى منى ودون ارادة سلوكا ومنهجا وطريقا اسير به وعليه حتى الان … البائعون والحدادون والنجارون وتجارالاثاث والموبيليا .. الموظفون البسطاء الخياطون … الترعة التى كانت تمتد من منبع النيل جنوبا هى و بحر يوسف ثم يفترقان عند مدخل مدينتى ( اهناسيا المدينة ) تلك البلدة التى قدر لها ان تحكم مصر فى الاسرتين التاسعة والعاشرة … 3005ق م
كيف لهذا الصبى الذى حلمت امه ان يصير وليا من الاولياء ان يصبح كاتبا … وشاعرا …
هذا الصبي … الذي
لم يكن
قد اتى الحلم بعد
الذي
حينما كان يومئ ….
لاتستجيب البيوت
الصبي الذي …
كان يحلم أن تستفيق الشوارع
حين يغنى لهم
أصبح الان كهلا … ومازال يحلم أن
تستقيم على راحتيه البيوت
وترقص بين يديه العرائس
هذا الصبي الذي …
كان يأتي وحيدا إلى غرفة الوقت
يستل سيف الحروف
ويغمد في جثة الشعر بوح العصافير
هذا الصبي الذي ذات صيف
تمنت له امه ان يصيرخطيبا على منبر الوقت
أو معلنا ثورة الريح
أو باعثا للمدائن أوردة من دماء القصائد
هذا الصبي الضعيف الذي …
ليس يكبر كالأقرباء
الذي حلمت أمه أن يصير وليا من الأولياء
بسيطا ككل الذين احتفوا بولادته
هو الان كهلا
تضاجعه ربة الشعر ليلا
وتنقش فوق وسادته وردة من ضجيج
الصبي الذي
يلعب الضاد في شارع ترتمي فيه
أسئلة من فراغ
هو الان يكبر
يدنو رويدا من الخاتمه
ومازال يعبث مابين حين وحين
ببعض الحروف
وكل الصور
شكلت برديات او ( شكاوى الفلاح الفصيح ) حالة وجدانية لازمتنى طوال فترة صبايا المبكر .. كنت اجلس اسفل شجرة الصفصاف المائلة الى الماء والتى تواجه منزلنا القديم واصنع عالمى الادبى وحالتى ا لشعرية واستحضر الوحى ليصب فى اذنى وعلى الورق قصائدى الاولى .. النهر اذن هو معلمى الاول
البائعون واصحاب المهن الحرة الذين يجاورون منزلى ( المنجد) و(الحداد ) هذا يسارا وهذا يمينا .. كنت استيقظ فى الصباح على اصوات الزبائن وهم ينادون على اصحاب الورش الملاصقة تماما لمنزلى ومن شرفة المنزل الصغير ارى جموعا من الناس وقد حضروا لشراء اثاثات العروس وعمل الوسائد والاغطية القطنية .. شكلت هذه الحالة بمفردات اصحاب المهن قاموسا متفردا فى عقل ليخرج تباعا قصائد وكتابات شعرية ..
عندما زارنى صديقى واستاذى دكتور مصطفى رجب فى منزلى بداية التسعينات سألنى : اين النهر الذى تكتبه فى شعرك ؟؟؟ والذى يكتبك
اشرت الى الترعة الصغيرة التى تمر من امام منزلى .. فما كان منه الا ان اخذنى اليها ونظر مليا ثم قال لى : هل هذه (البركة الصغيرة ) تصنع كل هذا الشعر ؟؟؟
أخذتني للنهر
فجردت القلب من الأشياء..
لتكشف عن ساقيها
فأمَلْتُ الرأس إلى حيث الأقدام
تحمّمتُ .. اغتسَـلَتْ
عند الشاطيء .. راحت تبحث عن أشيائي
وأنا أبحث عن نافذة لشواطيء أخرى.
هكذا شكل المكان بمفرداته شخصيتى الادبية … وهناك فى الخلفية تغسل الامطار فى الشتاء هذه المدينة العريقة عراقة التاريخ فتكشف عن مكنونها ودفائنها .. المنطقة الاثرية التى تاوى رفاة القدماء واثارهم تاوى ايضا رفاة الموتى من المحدثين
منطقة المقابر هذه عندما تسقط الامطار نهرول اطفالا اليها كى نحصل على بعض من الاوانى الفخارية القديمة او بعض فصوص الاحجار الكريمة او عظام الموتى … هذه المشاهد تخرج فى القصائد التى كتبت بعدها بعشرين عاما …
من قصيدة: في موكب الظمأ
يخطّ الزمان على راحتيك
حكايا النبوءات والمعجزات
وما زلت أنت..
برغم الجحود الذي كان منا
تطوح صندوق موسى إلينا
وما زال طوفانك الموسمي
يعاقر أشجارنا اليابسه
فتنبت عشباً
وتثمر في عُرينا السنبلات
فيا نيل مهلا
أما زلتَ تذكر من بايعوك
ومن تابعوك.. ومن أتعبوك
ومن في زمان المخاض الكبير
استحلُّوك أغنية للولاده
ومن في ظلال النخيل استطابوا
على شاطئيك صلاة العبادة
(إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد للنيل أن يستجيب
ولابد للماء أن ينهمر)
بدأت مشوار الكتابة فى سن مبكرة جدا .. كنت وقتها بعد يافعا اشاكس مدرس اللغة العربية فى الصف الثانى الاعدادى .. كان الاستاذ رمضان وهو مدرس وافد من الشرقية يعلم جيدا اننى اعشق الشعر واللغة العربية … وكنا فى العام الخامس والسبعين بعد حرب اكتوبر وكان مقررا علينا قصيدة ( الى اول جندى رفع العلم فى سيناء ) للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور .. والتى يقول فيها
تملـّيناك ،
حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء
، وجهك يلثم العلما
وترفعه يداك ، لكي يحلق في مدار الشمس ، حر الوجه مقتحما
ولكن كان هذا الوجه يظهر، ثم يستخفي .
قرأت القصيدة عدة مرات واعلنت للمدرس ثورتى وعصيانى …لماذا ؟؟؟ هناك خلل فى بعض الابيات وفى عروضها وانا اربأ بشاعر كبير مثل صلاح عبد الصبور ان يخطئ
فاستشاط منى غضبا وهو يعلم اننى سأكون على صواب
اصررت
فقال :اسمعنى
فقلت :
فهل ، باسمي وباسمهمُ لثمت النسج محتشدا
وهل باسمي وباسمهمُ مددت إلي الخيوط يدا
وهل باسمي وباسمهمُ ارتعشت بهزة الفرح
وأنت تراه يعلو الأفق متئدا
وهل باسمي وباسمهمُ همست بسورة الفتح
وأجنحة (الملائكة )حوله لم تحصها عددا
وأنت ترده للشمس خدنا باقيا .. أبدا
هنيهات من التحديق حالت صورة الاشياء فى (هذه العينين )
وأضحى ظلك المرسوم منبهما
رأيتك جذع جميز علي ترعة
رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة
رأيتك حائطا من جانب القلعة
فما كان من الاستاذ رمضان سوى ان ارسل تقريرا الى الادارة التعليمية يخبرهم ان هناك خللا فى الوزن والعروض فى ما بين الاقواس .. ومرت الايام وعلمت ان الامر اخذ على محمل الجد فى الوزارة واتضح انه خطأ طباعى ؟؟؟؟ ربما
شكلت مفردات البيت من انية نحاسية وفرن للخبيز واصوات ( الوتر ) الذى يعزف عليه المنجد وهو يقوم بعملية تنقية القطن من البذور … اصوات الحداد وهو يصنع فأسا او شادوفا للماء او ( شرشرة ) لقطع البرسيم … هذا الايقاع المتواتر هذب اذنى .. ذلك لثراء فى المفردات التى جعلت منى (مثقفا عضويا ) خرجت دون وعى منى فى كتاباتى وجعلت منى شاعرا وانا فى سن صغيرة … كنت اراسل المجلات العربية والدوريات المتخصصه فى مصر منذ الثمانينات … عندما قالوا ان نهر النيل سيجف فى نهاية الثمانينات كتبت قصيدة ( فى موكب الظمأ ) وارسلتها بالبريد الى الدكتور عبد القادر القط وكان يرأس مجلة ( ابداع ) قبل ان يقضى عليها وتصبح فى عداد الموتى الان … ارسلتها بالبريد
وخلال ايام اخبرنى صديقى الشاعر خالد حلمى احمد انه قرأها فى ابداع التى كانت تهتم بالعمل لا بالاسماء والمجاملات على حساب الابداع ..
كما ذكرت تشبعت ذاكرتى بمفردات الحارة والشارع الريفى الى حد ما وما يتحدث به عمال التنجيد والحدادة والترزية والذى يعمر بهم شارع ( ترعة السلطان ) نسبة الى السلطان / حسين كامل .. والذى شقت فى عهده هذه الترعة او النهر الصغير كما احب ان اسميه ..والذى اطلق عليه فيما بعد شارع سعد زغلول … تعلمت فى هذا الشارع كيف يتعامل الجار مع جاره فى المناسبات وكيف كانت امى رحمها الله تحثنا انا واخوتى على حق الجار .. فاذا ما صنعت طعاما لابد من ان ترسل اختى الي جارتنا التى وصلت اليها رائحته … شهر رمضان كان بمثابة تواصل دائم .. صناعة الكعك ( والتى تصحبها دائما أغانيها ) هى بمثابة احتفال كبير قبل العيد بايام قليلة … هؤلاء النسوة اللواتى يجتمعن فى منزل واحد ليصنعن معا ما يكفى لبيتنا والبيوت المجاورة … اغانيهم هذه صنعت منى شاعرا غنائيا ساهمت مع الفنانة الشعبية فاطمه عيد فى صنع عدة اغنيات شكلت طعما جديدا فى الغناء الشعبى ( عشمتنى بالحلق سعر الدهب عالى وكتبتلى عا الورق حب وكلام غالى . وبنيتلى بنيتك وعرفت انا نيتك يا حلو دى غنوتك فى الاصل موالى ) وكذلك ( اسألوها وكيلها مين ) ثم ( لو شيلوها م الحرير شيله ) وذلك ضمن البوم (طمع النفوس ) ثم كتبت للاذاعة من هذا التراث الشعبى اغنية لحنها الموسيقار / ابراهيم رافت اسمها ( تصبح على حب ) وغناء المطربه مى
ثم ايضا للاذاعة كتبت اغنية ( سكت المطر ) غنتها غادة رجب من الحان الموسيقار محمد على سليمان
اردت ان اذكر ذلك ان للمكان عندى اهمية كبيرة فهو الذى شكل هذا الشاب الذى كان ينشر اعماله ويرسلها للاذاعة وتنفذ بخطاب و طابع بريد … المكن مفردة كبيرة تعيش داخلى … تكبر معى واكبر بها
اسافر بقريتى ومدينتى هذه الى خارج مصر لامثل بلدى فى الشارقة مع الناقد الكبير دكتور / عبد المنعم تليمة … واعود محملا باشواق انفسها فى حجرتى وبين احبتى
عندما قابلت الشاعر الكبير عبد الرحمن الابنودى اواخر الثمانينات وقرأت عليه قصيدتى قال لى وهو يضع يده على كتفى : هاتبقى شاعر كويس … اقرا كثيرا… واكتب قليلا … اكتب عن هؤلاء الفلاحين الذين يحيطون بك …
تنفست هواء القرية مساءا عند عودة الاغنام والابقار من الحقول ورائحة اورق البرسيم الاخضر المحمل بالاوكسجين النقى مع نسمة العصر … جلساتنا قبيل المغرب امام المنزل مع الاصدقاء وشاى العصر … صوت عبد الوهاب الخارج خلسة من راديو قديم على رف متهالك على جدار يستر عرى المنازل الفقيرة …
الشوارع المتيقظة حتى الصباح … عمال المخبز الذين لا يكفون عن الشجار ليلا حتى بداية اليوم وهم يصنعون الخبز البلدى … رائحة الزيت المحترق عند بائعة الطعمية والتى تدخل الى سريرى … صوت الصبايا وهن ذاهبات فجرا الى الحقول لجمع القطن … بعضهن فوق عربات تجرها الحمير والاخريات مترجلات … قرءان الفجر الذى يشق عباب السماء … المصلون خارجون من منازلهم الى المسجد ….
السابعة صباحا … اطفال المدارس يبدأون يوما جديدا فى العام الدراسى … ولان منزلى يطل مباشرة على الطريق العام … اشعر انهم يمرون من امامى .. شكلت هذه اللوحات لوحة كبيرة بحجم خروج كتاباتى الى النور.
بقلم الشاعر :نور سليمان احمد