تذهب خيرية مع نجوى إلى سينما ركس في حفلة الساعة الثالثة يوم الأربعاء – فهي مخصصة للنساء فقط – وممنوع لأي رجل دخولها. فهمي – شقيق خيرية الذي يعمل في السينما – في إنتظارهما،. يجلسهما في ركن بآخر الصالة المزدحمة بالرجال. فالعاملون بها يستضيفون معارفهم وأصدقاءهم ليختلوا بعشيقاتهم. فيجلس فهمي بجوار نجوى، يشير لزميله الذي يبيع المثلجات لأن يفتح ثلاث زجاجات قازوزة. تتابع خيرية، نجوى وتضحك مما تفعل، فهي تنسى كل شيء، عندما تكون مع فهمي، يتغير شكل وجهها من شدة الوجد. نيقولا – اليهودي مثلها – يحبها ويأتي إلى شقتهم كثيرا محملا بالهدايا، لكنها لا تحبه. نيقولا غني، أبوه يمتلك محلا لبيع الكينا بسانت كاترين، وتوكيلا لبيع السجائر. قالت خيرية لها: نيقولا هو الأنسب لك، فهو يهودي مثلك. فتشيح بوجهها عنها في ضيق: إنه قصير، لا، لا، أنا أحب أخاك فهمي. تضحك خيرية ولا تعلق. تخرج نجوى من سينما ركس، يودعها فهمي بأن يشد على يدها، تنظر إليه في هيام شديد، وجهها أحمر، تنظر خيرية إليها في إبتسام، تسيران معا، نجوى مازالت متأثرة بما فعله فهمي بها، تضحك خيرية: نجوى، أفيقي فقد تركنا السينما، إننا في الشارع الآن. تسير خيرية ونجوى إلى الناحية الأخرى من الطريق، تنتظران الترام المؤدية لحي بحري، تقرص خيرية نجوى من ذراعها العارية الممتلئة: فوقي يا نجوى.
تنظر إليها في صمت، تقول: سننزل المحطة القادمة.
تجيبها: لا، سأذهب لأبي في الدكان. تسرع خيرية إلى الباب لتنزل وتلوح لها من بعيد، تذهب للبيت، صبرية مازالت في العمل، وإخلاص حزينة، لا تعرف ماذا ستفعل، وفهمي إجازته اليوم، عندما تراه تتذكر نجوى وشغفها به، تبتسم خيرية: نجوى مجنونة بك.
قال: أعلم.
قالت: لم هذه الثقة العالية؟
يقول: أخوكِ لا تستطيع فتاة مقاومة سحره.
فتدفعه في صدره، حتى تلقيه على السرير: تسأله: هل جهزت نفسك للزواج من نجوى؟
ينام على السرير في سعادة: الأمر سهل للغاية، المهم أن تتعلق نجوى بي أكثر، فتجبر يعقوب الرهوناتي لكي يزوجني في شقته، ويكتب لي دكانه.
فتسأله: وأين سيذهب يعقوب وزوجته؟
يقول: سيهاجران إلى كندا، هكذا أخبرتني نجوى.
تقول هي: محظوظ أنت يا فهمي، فالبنت فضلتك على نيقولا اليهودي مثلها، والغني جدا. تنزل نجوى في شارع الباشا، تسير خطوات قليلة، فيواجهها دكان يعقوب الرهوناتي الذي يقف أمام ” أدراجه” الكثيرة التي بلا غطاء، يراجع البضائع المرهونة عنده. راديو كبير قديم، وبذلة سوداء بحالة جيدة، وغويشة ذهب داخل علبتها القطيفة. وزوجته “سارة ” فوق مقعدها. والولد سيد يكنس الدكان إستعدادا لقفله. تقترب نجوى من يعقوب: مساء الخير يا أبي. يقبلها يعقوب في حنان واضح. وتبتسم سارة لها من بعيد: أعجبك الفيلم يا نجوى؟ تومئ برأسها، يعرف يعقوب وزوجته وسيد أيضا، إن نجوى تحرص على الذهاب إلى سينما ركس كل أربعاء. وإتفقت مع مدير محل الأزياء على أن تكون إجازتها يوم الأربعاء على أن تأتي يوم الأحد مع القليل من العاملين، فالمحل لا يغلق طوال الأسبوع.
يقترب سيد منها، يسألها: هل كان الفيلم مؤثرا لهذه الدرجة؟!
تصيح: بل كان فيلما كوميديا.
يعقوب مازال يعيد حساباته ويطمئن على بضائعه المرهونة. يعرف سيد ما بينها وبين فهمي، فيقول هامسا: هل أغضبك فهمي؟ تنظر إليه في غضب، فقد حذرته كثيرا من الخوض في هذا الموضوع، لكنه مصر على الحديث فيه. يصيح يعقوب في ضيق: إنتهي يا سيد من عملك، فقد تأخرنا الليلة. يضع سيد المكنسة في مكانها ويعود قائلا: أنت يا خواجه الذي أرجأت غلق الدكان حتى تعود نجوى من السينما. تقف سارة مبتسمة بوجهها الجميل الأبيض الممتلئ. تسير حتى خارج الدكان، تقف بجوار زوجها ونجوى، يتابعون سيد وهو يغلق ضلفتي باب الدكان الخشب الملون باللون البني، يضع سيد الأقفال الكبيرة في الباب ويضغط عليها بشدة، لكن يعقوب يعود – ككل مساء – لكي يتأكد من غلقها بنفسه. ويسيرون معا، يعرف يعقوب أن نجوى تحب الولد فهمي إبن فردوس والذي يعمل في سينما ركس. الذي يقلق سارة إن البنت شديدة التعلق به، تعود بعد كل مقابلة معه مخدرة، ولا تفيق من حالتها هذه إلا في صباح اليوم التالي. تسرع نجوى إلى فراشها، تريد أن تستعيد لحظات السعادة والتلذذ بينها وبين فهمي، تصيح سارة من مكانها: نجوى، ألن تتعشي الليلة أيضا؟ تصيح من فوق فراشها: أكلت سندوتشات كثيرة في السينما. تهمس سارة ليعقوب: إنني قلقة على البنت نجوى. يزفر في ضيق فقد مل حديثها في هذا الموضوع، فيصيح ويعلو صوته غصبا عنه: قلت لك ألف مرة، لا أستطيع أخذها معنا لكندا. تصيح في غضب: إخفض صوتك، لا أريد أن تسمعنا.
يتحدث في صوت منخفض: يا سارة، الحياة في مصر أصبحت مستحيلة، شهور قليلة وسيصدرون أمرا بإغلاق محلات الروهانتية. ماذا نعمل هنا، نبيع ورق يانصيب؟! تجيبه: لقد إنتهينا من هذه المشكلة ووافقتك على ترك مصر، لكن نجوى، إبنتنا…..صاح وإرتفع صوته ثانية غصبا عنه:نجوى ليست ابنتنا، أهلها هاجروا لإسرائيل وتركوها لنا. تقول: لقد أخذناها منهم طفلة صغيرة جدا، كنت أرضعها بنفسي. يقول: أذكر يا سارة وكنت أبحث لها بنفسي عن اللبن الصناعي.
قالت: حاول أهلها إستردادها عند سفرهم لإسرائيل، لكن البنت تعلقت بنا ورفضت أن تتركنا، أنتركها الآن؟! قال: أرجوكِ؟، الظروف تغيرت، الثورة غيرت كل شيء، ومشاكل عبد الناصر مع إسرائيل جاءت على رؤوسنا. صمتت، بكت في صمت، قام وضمها لصدره في حنان: أعرف مدى حبك لها، وسأحل المشكلة قبل سفرنا.
قالت: ماذا ستفعل؟
قال: نيقولا يحبها بجنون. و……صاحت في ثورة: نيقولا ثانية؟! إنها لا تطيقه، وفي آخر مرة، ضربها وكاد يحطم كل شيء بالمنزل، هل نسيت؟!صمت للحظات، ثم إقترب منها، داعب خدها: سأكتب هذه الشقة لها لتعيش فيها.صاحت بصوت مرتفع: الشقة لن تحل المشكلة، لن أطمئن إلا إذا تزوجت شابا يغنيها. شرد بعض الوقت ثم قال: فهمي لا يصلح لها، عمله في السينما لا يأتي له بالكثير، كما إنه عمل على كف عفريت، السينما التي يعمل بها، لا مستقبل لها. لا، لا، فهمي لا يصلح لها.
قالت سارة: إنني مثلك لا أرتاح لهذه العلاقة، فهو شديد الفقر و……
قاطعها قائلا: نامي يا سارة، وقبل سفرنا سنجد حلا.
صاحت في تحد: لن أنام قبل أن أطمئن على مستقبل إبنتي. ربت خدها، يعقوب شديد الحب لها، فهو الذي لم يتمكن من الإنجاب، ظن إنها هي السبب، فأخذها إلى أطباء يهود مهرة، يعرفونه جيدا، كشفوا عليها، فأكدوا له بإنها أرض خصبة، يمكنها أن تنجب العشرات، لكن أين البذرة التي ستزرع في أرضها، صديقه طبيب الأمراض التناسلية قال له: لن تنجب يا يعقوب أبدا. رغم حبها الشديد للأطفال لم تتغير، ليلتها نامت على صدره، ومسحت دموعه بأصابعها، لا، لا يمكن أن يتخلى عنها، أو يغضبها.قال: قبل أن نبرح مصر، سنحل مشاكل كل أحبابنا، تعلمين أن الولد سيد، يعمل معي منذ أن كان طفلا صغيرا، لذا، سأترك الدكان له، يحوله لأي تجارة يختارها. سألته: ونجوى؟
أمسك يدها في حنان: ماذا لو تزوجت سيد؟
صاحت فزعة: كيف، وهي مغرمة بفهمي؟!
قال: نجوى مشتاقة للرجل، أي رجل، وقبل أن نبرح مصر سنجعلها تحبه، ويسكنان شقتنا هذه، ويعملان في الدكان الواسع الكبير جدا. فوجئت نجوى بحديث يعقوب الغريب، أن تتزوج سيد – صبيه في الدكان – بكت، ومزقت شعرها، حتى ضمتها سارة لصدرها قائلة: قلبنا عليك يا نجوى، فهمي لا يحبك، وإنما يطمع في الشقة والدكان. قالت: لكنني لا أحب سيد، لا أحب سوى فهمي. وقد وعدته بالشقة والدكان.
صاح يعقوب: هذا ما دفعه إليك، لولا الشقة والدكان ما سأل عنك، كما إنني لن أعطى الدكان لأحد غير سيد، فهو الأحق، يعمل عندي منذ طفولته، وأعرفه جيدا، سيصونك ويرعاكِ. إبتعدت نجوى، أغلقت حجرتها عليها وبكت.رق قلب سارة، وكادت تحايل زوجها لكي يسمح لها بالزواج من فهمي ويحدث ما يحدث، لكن يعقوب، إستخرج ورقا من حقيبته صائحا: إنتهى الأمر يا سارة، الشقة لنجوى والدكان لسيد. وتحدد موعد السفر، وها هي التذاكر، إستعدي. فصمتت، رغم أن قلبها كاد يتقطع على نجوى. أرسل يعقوب لسيد، قال له أمام سارة: سيد، سأسافر لكندا، سأفارق الإسكندرية التي ولدت وعشت فيها. قال في أسى: لماذا يا خواجه، إبق معنا. أخرج الورق من الحقيبة: خذ يا سيد هذه الأوراق،فيها ملكيتك للدكان، أنت أولى به. لم يصدق سيد، صاح: لكن فهمي صديقي أخبرني أكثر من مرة، إنه سيتزوج نجوى وستكون الشقة والدكان من أجله. كانت سارة تبتسم رغم أساها وخوفها على نجوى، قال يعقوب: فهمي يفعل كل هذا من أجل الشقة والدكان، لكن أنت مخلص، أنا أعرف الناس، عملي كرهوناتي قديم، جعلني أعرف الصادق من الكاذب.إقتربت سارة منه، ربتت وجهه بحنان: سيد، أنا ربيتك مثل إبني، تعرف هذا؟ قال في أسى: أعرف يا مدام، وأحبك مثل أمي.
قالت: لذا، أرجوك لا تفرط في نجوى، تزوجها يا سيد، عش معها في هذه الشقة، إنتما أولى بها.
صاح: أتزوجها؟! لكن فهمي………
قبلته سارة في جبهته وبكت: عدني ألا تفرط في نجوى.
قدم يعقوب الأوراق لسيد: هذه أوراق الدكان، وأوراق ملكية الشقة لنجوى، هي غاضبة الآن، إحتفظ بها معك، وسلمها لها.
خرجت نجوى من حجرتها، نظرت إليهم في ضيق وأسرعت للشارع، صاحت سارة في خوف عليها: نجوى، أين تذهبين؟
قال يعقوب، وهو مازال يمسك أوراق الملكية: دعوها، ستذهب لفهمي لتخبره بما حدث، وهذا ما أريده، فهمي لا يريدها هي.
بكت سارة، وصاحت في زوجها غاضبة: لا تكن بهذه القسوة، البنت قد تقتل نفسها من شدة الأسى. قال: ستعود يا سارة، ‘طمئني.تعرف نجوى أن فهمي في السينما الآن، كان وجهها أحمر، وشعرها مهوش حول وجهها، وآثار البكاء في عينيها، قابلها فهمي في مدخل السينما: ماذا حدث يا نجوى؟
قالت: إلحقني يا فهمي، يريدون أن يزوجوني سيد صديقك؟
قال: سيد، لماذا سيد بالذات؟
قالت: كتبوا له الدكان وكل شيء.
صاح في غضب: ماذا تقولين؟
قالت: أبي يعقوب سلمه أوراق الملكية أمامي.
سألها: وماذا ستفعلين؟
قالت: لن أتزوج سواك، لا أحب سواك، خذني لبيتكم.
تابعها وهي تبكي في حرقة، فأعاد عليها القول: ظننتهما سيعطوننا الدكان والشقة.
قالت: لا تهتم بهما، فأنا أعمل وأنت تعمل، ونستطيع الحياة بدونهما.
قال: وظننتهما سيتركان لك مبلغا كبيرا من المال مع الشقة والدكان.
قالت: دعك من كل هذا، وهيا بنا لشقتكم لنتزوج فيها.
قال: لا، عودي إليهم، وسنتدبر الأمر بعد أن يسافرا. عاد فهمي منهارا، لقد خذله الخواجه يعقوب وكتب الدكان لسيد صبيه، والشقة أيضا. ظنه سيستجيب لرغبة نجوى ويعطيها كل شيء. قالت فردوس: طمعنجي بنى له بيت، فلسنجي سكن له فيه. ضاق فهمي بحديث أمه، وقالت إخلاص في أسى: يا فرحة ما تمت. الولد فهمي حزين، فقد وافقت نجوى أخيرا على الزواج من سيد. ورث الولد دكان الرهوناتي وشقته، نسيت نجوى فهمي، تسير الآن متعلقة بذراع سيد، تتشبث بذراعه بشبق، كما كانت تفعل مع فهمي. يبيع سيد الآن محتويات الدكان، قطعة قطعة: راديو كبير قديم موجود في الدكان منذ أن عمل سيد في صغره لدى الخواجة يعقوب. ولم يأت أحد للمطالبة به. وذهب كثير لا يدري أين ذهب أصحابه. وجرامفون يعمل للآن. ويسمع سيد عليه الإسطوانات مـن وقت لآخر. الخواجة يعقوب كان يسجل كل شيء في دفاتره، لكن سيد ليس عنده قلب لهذا. سيبيع كل هذه الأشياء، ويحول الدكان الكبير إلى مطعم سمك بدورين، سيكون أكبر وأهم مطعم سمك بك يا اسكندرية، هكذا إتفق مع نجوى ووافقت. قالت: سأترك العمل في محلات الأزياء وأتفرغ لك.
يسير سيد في الحي مزهوا بنفسه، هو غير مصدق، أيحدث كل هذا فجأة، دكان كبير وفي شارع الباشا الكبير، وشقة تمليك. وفتاة جميلة تحبه، ينظر فهمي إليه في ضيق، لا لم يعد صديقه، فهمي هو الذي بدأ، صاح فيه أمام كل رواد المقهى: لقد أخذت نجوى مني؟!لم يجبه، فقام فهمي محاولا ضربه، لكن سيد تصدى له وصاح: نجوى أمامك، روح خذها لو وافقتك. يعرف سيد إنه لم يكن يريد نجوى، وإنما يريد الدكان والشقة.