عبد الحافظ بخيت متولي يكتب: الطبيب الشاعر

الطبيب الشاعر .. لم تكن مهمة الشاعر تقل عن مهمة الطبيب، فكما يداوي الطبيب آلام الجسد بالمشرط والدواء يداوي الشاعر أيضا بالكلمة الصادقة والصورة الموحية ، ولذلك فالطبيب والشاعر يمثلان رحمة بالجسد ورحمة بالروح
فماذا اذا كان الطبيب شاعرا؟
يُعتبر الطبيب الشاعر حالة إنسانية وفكرية فريدة، تجمع بين دقّة العلم وجمال الفن، بين التحليل العقلي والإلهام الوجداني، فعلى الرغم من أن الطبّ علم قائم على المنهج التجريبي والدراسة الموضوعية للجسد والمرض، فإن الشعر ينتمي إلى عالم الروح والخيال والعاطفة ،ومع ذلك استطاع كثير من الأطباء أن يجمعوا بين هذين العالمين في انسجام بديع، فكانوا رسل رحمة بالجسد وبلسان الشعر على السواء، وهذا يحقق مقولة العقاد عن أن الإنسان الكامل هو من يجمع بين العلم والأدب أو بين العلم والفن
وإذا كان يبدو في الظاهر أن الطبّ والشعر مجالان متناقضان، غير أن جوهرهما واحد، فكلاهما يقوم على معرفة الإنسان في أعمق أعماقه، فالطبيب يدرس الجسد وأسراره، ويواجه الألم والضعف والموت، أما الشاعر فيغوص في النفس ومشاعرها وآمالها ومخاوفها، ولهذا فإن تجربة الطبيب الشاعر غالباً ما تكون أكثر ثراءً من تجربة الشاعر العادي، لأنها تنطلق من تماس مباشر مع الحياة والموت، مع الحزن والأمل، مع المأساة الإنسانية في أنقى صورها.
الطبيب الشاعر يرى في المرضى قصصاً إنسانية تتجاوز حدود الجسد، فيستمد من معاناتهم صوراً ومعاني تفيض بالشجن والعطف والتأمل. وفي المقابل، يمنحه الشعر رؤية فلسفية عميقة تجعله أكثر رحمةً وإنسانية في تعامله مع مرضاه.
ولقد عرف الأدب العربي منذ بداياته أطباءً برعوا في الطب كما تألقوا في الشعر؛ من أبرزهم أبو بكر الرازي الذي كان فيلسوفاً وطبيباً، وخلّف أبياتاً تعبّر عن نظرته العميقة للحياة والعلم، وإن لم يكن شاعراً بالمعنى التقليدي. أما ابن سينا، الطبيب الفيلسوف، فقد نظم شعراً يعكس فلسفته الروحية وعشقه للمعرفة،
كما برز في الأندلس الطبيب ابن زهر الأندلسي، الذي جمع بين براعة الطب وذوق الشعر، وكتب أبياتاً في الحكمة والحياة.
وفي العصر الحديث، تزايد عدد الأطباء الذين خاضوا غمار الشعر، خصوصاً مع تطور الطب وتنوع مجالاته. ومن أبرزهم إبراهيم ناجي، الطبيب المصري الذي ترك بصمة خالدة في الشعر الرومانسي العربي، وكانت مهنته الطبية سبباً في عمق مشاعره الإنسانية، فقد رأى الألم في وجوه الناس فحوّله إلى موسيقى شعرية حالمة، ومن أشهر قصائده “الأطلال” التي غنّتها أم كلثوم، وهي نموذج للتعبير العاطفي النبيل الممتزج بحسّ إنساني رقيق.
ومن الأطباء الشعراء أيضاً احمد زكي ابوشادي مؤسس جماعة ” ابوللو” وكان طبيبا وشاعرا وفليسوفا ومترجما ،وخليل مطران الذي تأثر بالمدارس الأدبية الأوروبية وجسّد التجربة الإنسانية في أبعادها النفسية، وإن لم يكن ممارساً للطب كناجي، فقد درس علومه وتأثر بها، وفي لبنان برز الطبيب إلياس أبو شبكة، وفي العراق محمد مهدي البصير، وفي السودان عبد الله الطيب، وغيرهم ممن جمعوا بين سماحة الروح العلمية ورهافة الحسّ الشعري.
و يمتلك الطبيب الشاعر حسًّا نفسيًّا دقيقًا، لأنه يتعامل يوميًا مع حالات الضعف الإنساني، هذا الاحتكاك المباشر بالمعاناة يولّد في داخله رؤية فلسفية عميقة تجعل الشعر وسيلةً للتنفيس والتأمل، إنه لا يكتب الشعر ترفًا، بل كوسيلة لمداواة روحه كما يداوي أجساد الآخرين.
ولهذا كثيرًا ما نجد في شعر الأطباء مفرداتٍ مثل “الجرح”، “النبض”، “الدواء”، و“الموت”، لكنها تتخذ معاني رمزية تتجاوز الطب إلى الحياة نفسها،
ولقد يصبح الطبيب الشاعر رمزًا للاتزان بين العقل والعاطفة، بين العلم والفن، وهو نموذج يُحتذى في قدرته على الحفاظ على إنسانيته رغم صعوبة مهنته، كما أنه يقدم لنا صورة تشير إلى أن الإبداع ليس نقيضًا للعلم، بل يمكن أن يكون شريكًا له في بناء الإنسان الكامل.

اقرأ المزيد:

عبد الحافظ بخيت يكتب : لماذا تأخر الخميس يا مصطفي؟