سعدني السلاموني
سعدني السلاموني

سعدني السلاموني يكتب: الفصل العشرين مملكة السواقى . من رواية ما بين الحياه والموت.قصة حياتى

بين الحياة والموت
هاحط كبري
يعدّوا عليه الميّتين للصاحين
والصاحين يروحوا للميّتين

الكل يتقرّب من والدي، وكرم والدي المفرط.
فهناك من يقترب من أجل كوب الشاي وسيجارة،
وهناك من يتقرّب من أجل تصليح ساقيته،
والكل يحاول أن يشتري رضا والدي بأي شكل من الأشكال.
ملك مملكة السواقي على سن ورمح.
والحق أقول: له أربعة أبناء وأنا خامسهم،
آخر العنقود كما يقولون، في نهاية السنة الخامسة، وسوف يدخل عمري في دائرة السنة السادسة.
وهو يقول: “ابني سعدني، روحي اللي أعيش بيها”.
يقول هذا وهو جالس على باب الدار،
وبجواره حشد من الفلاحين،
وعم قابيل مشعل فوانيس الشوارع يبتسم له ابتسامته الملائكية، وهو يصبّ الجاز في جوف فانوس الشارع، لأن قريتنا لم تصلها الكهرباء ولم يمسسها نور.
ونحن الآن في عام 1970،
والبيوت تُضاء بثلاثة أنواع من اللمبات:
لمبة نمرة خمسة، ولمبة نمرة عشرة، ولمبة الجاز الشريط الشهيرة (أم شعلة).
ولا يمر شهر على قريتنا إلا وتحدث عدة حرائق.
وعلى الجانب الآخر، الموت يأتيها كل نهاية عام،
لدرجة أطلقوا عليه “موسم الموت”.
وحين يصل الموت إلى شارع ما، الكل يراه ويراهن على الروح التي سيقبضها.
تقول السيدة: “أراهن على الحاجة فاطمة على فراش الموت”، وتقول أخرى: “الحاج أحمد”.
وثاني يوم تراه عيون الكلاب فتعوي لتنذر أهل قريتي بدخول الموت.
وعلى صوت الكلاب تحوم الغربان على سطح دار الميت.
وكانت الغربان تحوم فوق دارنا، ولا يعرف أحد أن الموت سوف يختار روح جدتي هانم عليمة، روحي الثانية.
التي صرخ فيها والدي حين عادت من الموت إلى الحياة للمرة الرابعة، وقال: “طلّعتي روح أبونا وفضحتينا في البلد. يا تموتي يا تتهدي وتصحّي، كفاية إحراج، الناس عندها مشاغل”.
وهذه المرة ماتت بلا رجعة.
المنادي يقول: “توفيت اليوم إلى رحمة الله تعالى هانم عليمة، حماة المعلم عبد الفتاح السلاموني، والدفنة بعد الغسل”.
جلستُ بجوارها وهي عارية تمامًا، كما ولدتها أمها. وقررت أن أدفن معها في القبر.
وبدأت أفكر في حياة القبر: هل هناك أطفال أحياء ألعب معهم ليلاً؟
جاءت الشيخة خضرة تتقدّم النساء، وبدأت تمارس طقوسها في التغسيل، تتخلّص ببطء من أثوابها الداخلية، وتلفّ أطراف الأثواب الخارجية على خصرها، وهي تصب المياه على جسد جدتي الميت الذي يخلو من الدم، وعيناها مغمضتان.
وجاء دور الكولونيا “خمس خمسات”.
رائحة أفزعت الحشرات في سقف الدار، وفي نهاية الرائحة يسكن جسد الموت.
رشّتها على وجه جدتي.
استيقظت جدتي من الموت للمرة الخامسة، وهي تقول: “عطشانة”.
انطلقت زغاريد النساء احتفاءً بعودة جدتي من الموت مجاملة لوالدي.
وفي ظل هذا الفرح، وجه الشيخة خضرة يكسوه الغضب من كل اتجاه، وكأنها في حالة حزن.
ذهبت إلى والدي وهي تقسم له بأن الغسل تكلّف اثنين من الجنيهات.
“هات لي مصحف يا معلم وأنا أحلف عليه… صابونة، وليف، وكولونيا”.
نظر لها والدي نظرة غضب وهو يقول: “غوري يا مرة. هو دا وقته؟ هاجيب لك منين؟ اهي عندك اهيه خديها…”
ذهبت الشيخة خضرة متجهة ناحية جدتي، ولأن جدتي فرحتها لا تُقدّر بمال، أقسمت لخضرة: حين يأتي أول ميت في القرية وتُعَدِّد عليه، سيكون من هذه العين (جنبه)، ومن العين الأخرى جنيه.
وجاء أول ميت والثاني والثالث والعاشر، وخضرة عند كل ميت تأتي لجدتي تطالبها بسداد الدين، حتى انهالت عليها جدتي بأفظع الشتائم، وهي تقول: “اتلمي يا مرة! غسل إيه؟ هو أنا كنت مسئولة عن موتي؟”
نظرت لها خضرة نظرات الغضب، وأقسمت لها أن تنتقم منها أشد الانتقام حسب قسمها.
ذهبت شهور وجاءت شهور، وطابور من الأحياء في انتظار الموت. وكانت جدتي في أول الطابور. وبكل قسوة خطف الموت روحها بقرار نهائي لا رجعة فيه.
وقال أحد الجيران في أذن والدي: “عبد الفتاح، كفاية فضايح. لازم تجيب طبيب القرية علشان نعرف دا موت نهائي ولا موت على باب الحياة؟ على الطلاق لو ما ماتتش لأموتها بإيدي… هو أنا ناقص فضايح؟”
جاء الطبيب وهو يقيس النبض من هنا وهناك، ونظر للجميع: “الباقية في حياتكم”.
انطلقت الزغاريد مختلطة بالصوات، واطمأنّت القرية لوجود الطبيب، فالكل جلس في الشارع باسترخاء وطمأنينة.
وجاء موتها بين المغرب والعشاء، وها هي خضرة تشقّ جموع الرجال وهي تنظر لوالدي بغضب، وكادت أن تفتك به.
والدي أدار وجهه خوفًا من نظرات خضرة.
صعدت إلى الطابق الثاني وهي تحمل جسدها العجوز.
أمرت النساء بإضاءة لمبة أخرى لأن الإضاءة ضعيفة حسب قولها.
تخلّصت من كل أثوابها، وعقدت أطراف الجلابيب إلى خصرها حتى لا تسقط عليها مياه الغسل.
وكل حين وحين تنظر لجدتي، وكادت أن تفتك بجسدها الميت.
الماء يغلي على الوابور. وكان أول شفشق مياه يطلق أعمدة من الأدخنة.
نظرت لها سيدة وقالت: “بردي المية، المية بتغلي على جسد الميت”.
قالت خضرة: “دا شغلي. انتِ هتعرفي أكتر مني؟”
وأطلقت سيلًا من المياه الساخنة متوجهة لوجه جدتي في سرعة الرصاصة.
نطّت جدتي واقفة، فزعة، منتصبة: “يا أولاد الكلب، عايزين تموتوني؟”
قفزت خضرة من أمامها كالقرود، وهي تلطم الخدود، متجهة إلى أرض الشارع وهي تصرخ وتقول: “الميت صحي… والله صحي…”
ووالدي يردد: “غطّي هدومك يا خضرة… الميت صحي… نزّلي هدومك يا مرة… الميت صحي… والله صحي… نزّلي هدوووومك يا خضرة… الميت صحي… استري نفسك يا خضرة… الميت صحي… وربنا صحي”.