[القصيدة بين الإبداع والتّفعيل في شـعر أوفىٰ عبدالله الأنور ] بقلم : فولاذ عبدالله الأنور

بين وعيهِ الإنساني ووحيهِ الإبداعيّ ، نجحت القصيدة في شعر أوفى عبدالله الأنور فواز في انتزاع الشَّعرة التي تفصل بين “الإبداع” و”التفعيل” حتىٰ غدا حضورُه الإنساني يزاحم حضورَه الشعريّ ليتنافساٰ أشدّ المنافسة عنده رغم اشتراكهماٰ معاً في الظهور بقوةٍ على الساحتَين: الإنسانية والأدبية.
وأول دلائل اندماج رؤيته الشعرية بحياته الإنسانية ، انفرادُه من بين أشقّائه الشعراء الأربعة (فولاذ والدكتور مشهور – رحمه اللـه – والسّماح) بالعودة دونهم ـ فورَ انتهاء دراسته الجامعية في القاهرة عاصمة الإشعاع الثقافي والفكريّ ـ وطنه الأول “سوهاج” مُكرّساً جهدَه في تعزيز الوجه الثقافي في الصعيد لتنطلق قصيدته من وراء مئات الكيلومترات وتغزو القاهرةَ من هناك ، من النقطة التي شهدَت ذات يوم فجر ميلاده ، مُحقّقاً بهٰذه العودة تفعيلاً لرؤيته الشعرية دامجاً بذلك الوحيّ الشعريّ عنده بالوعيّ الإنسانيّ.
والعودة إلى الجذور همّ شعريّ للأشقّاء الأربعة منذ اصطدموا بالعاصمة الكبرىٰ حال نزوحهم إليهاٰ طلباً للعلم واستقروا فيهاٰ بعد فراغهم من الدراسة باستثناء أوفى الأنور الذي فعّل ـ من دونهم ـ شعرَ الحنين للوطن إلىٰ واقع حيّ وحضور ملموس بعودته إلى الجذور.
فركن إلىٰ حضن عشيرته الكبيرة ـ وهي معروفة بعراقة أصولهاٰ في الصعيد ـ ليبقىٰ في رعاية والديه : أمّه الرءُوم المريضة ووالده الشيخ العالم الجليل عبدالله الأنور فواز رحمهما اللـه ، وعزز هٰذا الركون والانتماء بمصاهرة أبناء عمومته ـ علىٰ عكس أشقّائه الثلاثة ، لتستقرَ بذلك كِفّتا الميزان عنده بين الإبداع الشعريّ من ناحية وبين الواقع الذي يحياه من ناحية أخرىٰ مُحقّقاً – بذلك – الفعلَ الشعريّ وليس الكتابةَ الشعرية.
ورغم كون أولاده الثلاثة: ( عبدالله Abdallah Awfa Fawaz ، وعبدالسلام Abdelsalam Awfa ، وإيراق) قد نزحواٰ مثل أعمامهم إلى القاهرة وتقلّدواٰ فيهاٰ أرفع المناصب وأنجبواٰ له من الأحفاد ماٰ تقرّ به الأعين إلاٰ أنه ظل علىٰ العهد مستمسكاً بقيمة الفرد في إطار العشيرة الواحدة ، فتراه في أوائل المهنئين في دواوير الأفراح ، وفي طلائع المُشيّعينَ في مواكب الجنازات ، وتراه في الصدارة من مجالس الصلح وسائر المناسبات الاجتماعية بين المدينة: “سوهاج” والقرية الأم: “العسيرات”.
وكماٰ ظلّ مُستمسكاً بقيمة الفرد في إطار العشيرة الواحدة هناك ، ظلّ كذلك مُستمسكاً بقيمة الشخصية الإبداعية التي تعطي ولاٰ تنتظر وتمنح ولاٰ ترتقب حتىٰ أصبحت محافلُ التكريم للأدباء في أعالي الصعيد ومهرجانات التتويج للعلماء والشعراء تُنسب إليه هو بقدر ماٰ تُنسب إلى المؤسسة الثقافية الرسمية هناك.
ركَن إذن أوفىٰ عبدالله الأنور تحت مظلة الصعيد ، فيماٰ لم يركن إبداعه هناك بل انطلق إلىٰ سائر أصقاع مصر وخارج حدودهاٰ أيضاً ، ولعلّ واحدةً مِن فرائده المسماة بـ “القصائد المقدسة” الواردة ص٦٨ إلىٰ ص٧٨ في ديوانه الشهير (ثورة الأشجار) الصادر عام ٢٠٠٨م عن الهيئة العامة للكتاب بدراسة مستفيضة للناقد الكبير عبدالحافظ بخيت متولى ، لعلَّ قصيدته تلك التي كتبهاٰ فيناٰ ـ نحن والدَه وأشقّاءَه الثلاثة فولاذ ومشهور رحمه اللـه والسّماح ـ لعلّ فيهاٰ شيئاً مماٰ أردتُ توضيحه في كلمتي هٰذهِ في يوم تكريمه :
[ القصائد المقدسة ] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعر : أوفىٰ عبدالله الأنور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أبي
ساطعاً هو لما يزلْ
تحتويه البراءةُ عندَ الصباحْ
وعندَ المساءِ
يلملمُ عن قاصديه الجراحْ
بأنَّ البنينَ
ستحملُهم قاطراتُ الجنوب إليهِ
فتصدقُ أحلامُه الراكضة
حينَ يصطفُ أبناؤه العائدون
في لحظةٍ وامضة
يدسُون أخبارَهم
ويشكون أزمنةً قدْ تخونْ
فيدثرُ أحلامَهم
ويهدْهدُ أوجاعَهم
ويقصُّ تواريخَه الناصعه
ويبوحُ بأشعارِه الرائعه
ليسَ غيرُ التهجدِ عنْ نفسِه
الطائعه
أو جبهة راكعه
2- فولاذ
في صباحٍ غريب
سرقتْه المدينةُ منا
وتجوُّلَ وسطَ أزقتِها
ثمَّ عادَ لنا صوتُه في الأثير
حاملاً شعرَه،
وهو يعشقُ كلَّ صباحٍ أميرة
فتنهرُه واحدة
وتأخذُه لشواطئِها واحدةْ
ويَهطلُ كالمطرِ الموسمي
حينَ يرصدُ خطوتَه الحرسُ
اليافعون
ويرحلُ عبرَ البلاد
ويعودُ يخاصمُ أشعارَه
ويبدل أثوابَه
ويحطُّ على طرف العاصمة
شمعةً
ثم يُشعلُها من دمه
ويرتلُ قرآنَه
فتهتزُّ من حوله العاصمة
في لحظةٍ عاصمة
3 – مشهور
دائماً يزرعُ الأرضَ أشياءَه
ثم يمشى إلى شاطئ الحلم
يركزُ في أول الكون مقصلةً
ويشدُّ على آخر الكون سنبلةً
ثم يرنُو
فإنْ غيَّرَ الكونُ أشكالَه
أو إذا ظلَّ هذا المدى يتبلّدْ
حلمُ هذا الفتى يتجددْ
فيحطُّ على أول الكونِ حرفاً
ويشدُّ على آخر الكونِ حرفاً
ويمزجُ بينهما في قصيدة
ويخرجُ محتفياً بالمدى
ثم يرنو
فإنْ صارَ للكون لونٌ كما شاءَ،
لا يكتفي
يزرعُ الأرض أشياءَه
ويحطُّ على حافة البحر
يرسلُ عينيه
تحتويان الفضاءَ الوسيع
ويتمتمُ:
هذا الفضاءُ فضائي أنا والمساحاتُ قدْ حاصرتْها المنى
والتواريخُ تبدأُ من ها هنا
4- السَّماح
شالَ خديجته في القلب
وحطَّ بمقهى البستان
ورَشا الحارس
وافتعلَ خلافاً
ومشى لفتاةٍ واعدها
و تعمَّدَ أنْ يتركَها تتشوق
ثم يباغتُها بجنون الشعر
لم يزلْ بعدُ معتركاً بالمدينة
ويراهنُ أنَّ فلسطينَ باقيةٌ
و همو راحلون
لم يزل يتعشقُ بعد خديجته
. . .
يدلفُ من مقهى البستانِ
يُحيّي،
و يبصُّ بوجه الصحبة
ثم يباغتُهم بقصيدته
ويخالفُ آراءهم ، ويمرُّ
ويتركُ وعدَ اللقاء غداً
ويجئ الموعد ليس يجيء
لكنْ يأوي للمعصرة
يغنى للشعر ، يدثرُ رعشته،
ويهدئ ثورته
ويزمّل أحزانه
حينَ يكتبُ أشجانَه كلَّها
في قصيدة
إنه يركب الآن رأسَه
ويقاتلُ جندَ القصيدة
يأوي إلى المعصرة
ويبقى مع الشعر حتى يدثرَ رعشتَه
و يزملَ أحزانَه في قصيدة