كتب إبراهيم موسى النحّاس:
في ديوانه الشعري الجديد ” تعاشيق الذي رأى ” يَنحَى الشاعر أحمد بن مهدي منحىً صوفيًا للتعبير عن رؤيته القائمة على اغتراب الذات وتشيؤها , لتصبح الكتابة ملاذًا , والاستبطان الصوفي ملجأً ً لتلك الذات في مواجهة شعورها القوي بهذا الاغتراب الذي يصل إلى درجة إحساس الذات باغترابها عن نفسها , فيقول في قصيدة ” فواصل” في ص 51:
(( أشتهي…..
أن أخاصرني…
تحت رذاذ الأمنيات!!
وأسافر في وجهي…
كمساء تمرسه البنفسج
فغدا غيمة
أو هديلًا للأغنيات!!)).
كما يتجلَّى هذا الشعور باغتراب الذات في أولى قصائد الديوان , فيقول في قصيدة ” حاجيتكم” ص 11:
((شمعة……
تسفر عن بسمة
دمعة……..
تموت في الزحمة
وأنا يا أصدقائي….
تائه كعصفور…..
في العتمة
من محنة……
لمحنة
أرحل فيكم….
إليَّ….
وأعبرني……
في دمسة العتمة)).
ومع الشعور باغتراب الذات الشاعرة يصبح توظيف السؤال رمزًا للتعبير عن قلق تلك الذات وحيرتها , فيقول في قصيدة ” سؤال للمسافات الجريئة ” في ص 26-27:
(( هل كان يجدي……
أن ترحل السنونوة السوداء
نحو الجحور الغريقة
في حفنة الضياء…
كي تسكنني المدينة العتيقة
وتنبت من نبضي
زقومة التحول في العماء؟
أم كان يجدي…
أن أخرج من جلناري
كهف يدي البيضاء
من غير سوء….
كي أن تسترد ضفيرتها السوداء
“لونجا”
وتصفع غول التوجُّس
بكل كبرياء؟!)).
وتصبح الكتابة الملاذ الذي تواجه به الذات الشاعرة اغترابها وهذا ما ظهر من بداية الديوان, أي من خلال الإهداء في ص 7 الذي جاء على النحو التالي:
((إلى
الذين شدُّوا أزر آدم إذ ينحت حزنه كي يرى تعاشيقه أسارير بشرى….
أمي إذ تهز إليها بجذع الحرف ذات مخاض وتسلمني لقابلة ميلادي الأزلي)).
ومع توظيف السؤال يوظف الشاعر لغة المفارقة التي تحمل الشعور بالمرارة والألم كما في قصيدة ” وللماء وجهي وطن” ص 34 حيث يقول:
((جرّبتُ….
أن أقول للآه
يا وطني…..
جرّبتُ
أن أمحو من وجهي
خارطة الماء…..!!
ما استجاب الآه للنداء…
وما انمحَى من وجهي الماء!!)) .
وعلى مستوى المعجم الشعري نجد اللغة الصوفية هي الأكثر شيوعًا داخل الديوان , رُبَّما لأنّ التوحُّد الصوفي يخفف من حدّة شعور الذات الشاعرة باغترابها , وتتجلّى اللغة الصوفية في المفتتح ص 9 وفي بعض عناوين القصائد داخل الديوان مثل( آخر النبوءات – رجع الصدى – أموت حقلًا من حنين- تسابيح التوت ) , وتتصدر اللغة الصوفية المتن الشعري مثل قوله في قصيدة ” آخر النبوءات” ص 36-37:
(( مدد مدد….
مدد مدد
يتنزّل من عليائه النور
قبسًا من رُؤَى
على العرش استوى
له الأمرُ
من قبل
ومن بعد
ولي رعشة الحظوة
مدد مدد….
مدد مدد….
…مدد مدد…)).
ومع استخدام المعجم الصوفي نجد استخدام الشاعر لمفردات المعجم القرآني , ذلك لاقتراب المعجمين على مستوى اللفظ والدلالة , كما نجد في قصيدة ” وللماء وجهي وطن” حيث يقول في ص 34-35:
(( على الجودي…
ما استوت فلكي
وما غيض الماء من وجهي
ولا غنَّى هدهد الغوث:
” أيا ليل
متى زيتونة النجوى
تضيء حقولي؟
متى يحوم ببشرى النجاة هديلي
لئلا يصير الموت
رديفًا للوطن؟!” )).
من القراءة السابقة يمكننا أن نقول إنَّ ديوان ” تعاشيق الذي رأى” للشاعر أحمد بن مهدي تقوم رؤيته على التعبير عن اغتراب الذات في لغة توظف السؤال والمفارقة والمعجم الصوفي الجميل, ويعتبر تجربة متميزة في مسيرة الشاعر الإبداعية.