(( وردة من الوطن الضيِّق)) قراءة في قصيدة “التأويل في الألوان”  للشاعرة التونسية ضحى بو ترعة

 

 

 

كتب إبراهيم موسى النحّاس:

        تنحاز الشاعرة ضحى بو ترعة في تجربتها الشعرية للبعد الإنساني إيمانًا بأهمية ذلك البعد في تشكيل رؤية القصيدة لتكتب صدقها الفني والوجودي معًا, والشاعرة في تجربتها تلك تنحاز للطبقات الكادحة المتوسطة والفقيرة, فبين هؤلاء تتسع الألوان كما تتسع في بهاء القصيدة, وكأن العالم يتم اختزاله في أمرين : الفن حيث الألوان مع القصيد, والشوارع بما تحمله من حكايا ومواجع الفقراء والوجوه التي تمُر, فتقول:

((اللّيل يرغمنا على التأويل

والألوان تتسع في القصيد وحلم الفقراء

ذلك الشارع يلملم بقايا ضجيج لوجوه تمر

كان يغسلني الضوء والعطش وغبار الحبر

وكنت أجلس في طرف الرّيح

و ذاكرة الأصابع)).

ثم تتجه للحديث عن الشعر مشيرة إلى أهمية التجريب, والتمرُّد على مستوى الدلالة وعلى مستوى التشكيل الفني, وتصف معاناة الشاعر في نزفه للقصيدة:

((شاعر

يفتح أصابعه لحبر مبتلّ بالخوف

يشتَمُّ في دمي رائحة الحدائق المفتوحة بالعصيان

وفي اليوم التالي

فجر يتحقق من قاع الأزمنة

يحرّك عبارة في ذاكرة المؤرّخين

هكذا يمُر اليوم سريعًا بين شهوة العشّاق

و اقتناص المعنى)).

والحديث عن الشعر ينقلنا للحديث عن الذات الشاعرة داخل القصيدة تلك الذات التي تجمع السمات الإنسانية الجديرة بالإحساس بها وبكيانها, حيث التمرُّد و”النوستالجيا” بحنينها إلى وجه الأم وذكريات عاشقٍ ما,كما نلمح مرارة الانتظار, فتقول:

((هذه الأرض تستعيد ملامح الإثم

وجه أمِّي يغمرني

تعبر منه العصافير والفصول

لم أزل

أنتظر عاشقا يصعد في رئتي

يختلي بالذكريات وطيش اللغة)).

وتنتهي القصيدة بذلك الشعور بالأمل رغم الغيوم مما يؤكد أننا أمام ذات شاعرة قادرة على الفعل وليست انهزامية, وهذا يتفق مع الطبيعة المتمردة لتلك الذات ووعيها بالواقع المحيط بها, فتختم القصيدة بقولها:

((تلك جهتي…….

وردة من وطني الضيّق

تفتح بيني وبينك شرفة مضيئة

والنهار يتناءى

وعراء البوح فوق شفة الشّمس

يقيس عرض الفصول في مداك

حين تنفلت الأنهار من الظلمة……..)).

وعلى المستوى الفنّي تنتمي القصيدة إلى قصيدة النثر التي تعتمد في لغتها على السرد, في معجمٍ شعريّ ثريّ يحمل حقولاً دلالية رمزية تتناغم مع رؤية الشاعرة التي أرادت التعبير عنها, ومع طول القصيدة بعض الشيء لكننا نلمح بقوة في لغتها ذلك التكثيف الدلالي, لتفتح الجملة الواحدة بابًا واسعًا للتأويل, وتتحول اللفظة الواحدة إلى ما يشبه قطعة اليورانيوم – إن صحَّ التشبيه- المُشعَّة بالدلالات المختلفة, فينتج بهذا النص التفاعلي متعدّد القراءات, ليصل المتلقي مع كل قراءة جديدة لمعنى جديد, ويكفي استشهادًا على لغة التكثيف الدلالي في معجمها الشعري قولها:((شاعريفتح أصابعه لحبرٍ مُبْتَلّ بالخوف, يشتَمُّ في دمي رائحة الحدائق المفتوحة بالعصيان )). ويأتي التصوير متناغمًا أيضًا مع تلك البنية السردية حيث اعتمدت الشاعرة على الخيال الكلي برسم صورة كليّة وكأنها تجعلنا نقف أمام لوحة تشكيلية يمكن تخيلها بجميع خيوطها وتفاصيلها, مثل تلك اللوحة التشكيلية في بداية القصيدة التي اعتمدت على الخيال الكلّي:

((ذلك الشارع

يلملم بقايا ضجيج لوجوه تمُرُّ

كان يغسلني الضوء والعطش وغبار الحبر

وكنت أجلس في طرف الرّيح

و ذاكرة الأصابع)). وهذا التركيز على الخيال الكلّي لم يكن على حساب الصورة الشعرية الجزئية, فالقصيدة حافلة بالصور الجزئية من تشبيهات واستعارات جاءت في معظمها جديدة ومبتكرة, مما يؤكد أنّنا أمام شاعرة تجيد امتلاك أدواتهاالفنية وأنّها واسعة الخيال ,ولا تركن إلى التقريرية أو المباشرة في التعبير,ولنتأمل تلك الصور الجديدة المبتكرة مثل: ((وجه أمِّي يغمرني , تعبر منه العصافير والطيور – لم أكن أقصد الرقص في حضرة الأخطاء- شوارع تتنزّه خلف الهواء…. وهكذا)).

أيضًا نجد جانبًا ” ما بعد حداثيّ ” هو توظيف الجسد للتعبير عن رؤية الشاعرة وجدلية علاقة الذات الشاعرة بالوجود والآخر,باعتبار أنّ الجسد جزء لا ينفصل عنّا برغباته ومعاناته, كما يلعب دورًامحوريًا في تشكيل السلوك الإنساني أحيانًا, وفي رؤية الذات للروح والوجود المحيط بها, فتقول:

((لم أزل

أنتظر عاشقا يصعد في رئتي

يختلي بالذكريات وطيش اللغة

لم أكن أقصد الرقص في حضرة الأخطاء

بل كنت مرآة أنثى تجاورني ……

فهل كان عليك ان تظلّ شجر يستدرج الغابات إلى سرير الشهوة

;وتخنق ما تبقّى من رائحة الرّوح الملطّخة بالغبطة والنقيض

لم تترك في أوردتي سواء مكان قتيل

شوارع تتنزه خارج الهواء

تهرب من مطر يبحث خلف الأشياء

التي احتجزتها أرض تتهجّى ذاكرتها

خلف الأشياء التي تتعلم من الانتظار

. هناك في المدى هذا القلب

خطوة في كف الهفوات

التي أهملتها نكهة المشهد

في تقاطع كفين

يدفعنا انحدار الحنين إلى الرغبة ونزق الشعراء)).

من القراءة السريعة السابقة يمكننا أن نقول إنّ الشاعرة ضحى بوترعة في تلك القصيدة تتجه بقوة نحو التمرد على الأطر الثابتة في الكتابة, وتسعى نحو التجريب والتمرُّد الفني لتخلق صوتها الشعري الخاص مؤكّدة بمعجمها الشعري وصورتها الكليّة والجزئية المبتكرة على أنّ قصيدة النثر ليست قصيدة الاستسهال والقوالب التعبيرية السهلة الثابتة, بل هي القصيدة  الصعبة التي تنأى بكاتبها عن التقليد, وأنّها قصيدة إنسانية غير منغلقة على الذات فقط, وجدت للتعبير عن الإنسان في تمرُّد فني على كل الأطر وآليات الكتابة القديمة المستهلكة.

 

 

 

اترك تعليقاً