فولاذ الانور / يكتب من الجزائر عن الملتقى الدولي للشعر بالبليدة

الملتقى الدولي للشعر بالبليدة، الجزائر [ 8 ] : المحور الفني ( ١ ) :
■ ليلة الغناء العربي وعرض الأزياء الشرقية الراقية على مسرح الأندلس الضائعة ■
■ مطربة جبال الأوراس ”الشابة يامينة“، ترصّع ليل الجزائر بالأصداف واللآليء الصوتية ■
■ مصممة الأزياء العالمية الدكتورة ”السيدة زمزوم“ تغمر القاعة بلمسات قوس قُزَح ■
■ رئيس المؤتمر في رفقة الوفود المشاركة على امتداد عشرة أيام كاملة دون كللٍ أو ملل ■

□ من المؤسف أن اللحظات الجميلة تتسرّب من بين أيدينا بعامل الوقت والزمن، وعندما نفشل في إبقائها كما هي واقعاً ملموساً، فإنها تتحول – بفعل الزمن – إلى شريط من الذكريات الجميلة، التي تصاحبنا في أوقات فراغنا ونومنا ويقظتنا، وكأنها عادت مرةً أخرى واقعاً حياًّ نعيشه ونحياه مع شخوصه وأحداثه وأماكنه من جديد، ولأنها من القيمة عندنا بمكان، فإننا نتلذّذ باستعادتها ، وكأن الزمن لم يتحرك بنا عن مكانها، الذي شهد الوقائع والأحداث.

□ إننا ببساطة شديدة نتلذّذ بالذكريات، وربما يكون تلذّذنا بها بعد أن تحولت إلى ماضٍ جميل، يفوق تلذّذنا بها وقت أن كانت حاضراً غنياً بمعاني الجمال والإدهاش ملموساً بالرؤية والوجدان والحواس.

□ وهذه هي قيمة الأعمال الخالدة، وقيمة الفنون والآداب، وقيمة الضمير المتيقظ للجمال أينما وُجد، وللكمال أينما كان.

□ فمن أروع ما يحسب للمؤتمر الدولي في البليدة – أن خصّص المسئولون عنه ثلاثة أيام للفعاليات الأديبة، وسبعة أيام للسياحة الجغرافية والتاريخية، والترفيهية، ولعل هذه الأيام السبعة المدهشة هي التي أضاءت لنا وجه الجزائر عامةً والبليدة خاصةً، تلك التي ما كان لنا أن نقف على بهائها وثرائها لولا هذا البرنامج الموضوع بعناية فائقة حباً في الجزائر، ونهوضاً بالبليدة، واحتراماً لضيوفها المدعوّين من مختلف العواصم العربية.

□ لقد بزّوا بذلك كل دعاية إعلامية تستهدف تعريف الضيوف بجزائرهم الجميلة، وأظنّ أن مؤسسة ترقية الفنون والنشاطات الثقافية والرياضية، التي يترأسها الأستاذ مراد رقيق، لم يعد اهتمامها مقصوراً على ترقية هذه الأنشطة فقط، وإنما أضافت إليها ترقيةً إعلاميةً بارعة، سيكون لها دورها على المدى الطويل في الدفع بالجزائر إلى صدارة الاهتمام الدولي ثقافياً وفنّياً ورياضياً، وسياحيا أيضاً.

□ فما بالك بمدير هذه المؤسسة وقد أبي إلا اصطحاب الوفود المدعوّة في حلّهم وترحالهم، منذ كان على رأس مستقبليهم في المطار إلى أن قام بتودبعهم فيه، فإنك واجدهُ معهم في كل مكان : في الجلسات النقدية في الصباح، وفي الفعّاليات الأدبية في المساء، وواجدُه معهم على موائد الغداء والعشاء، كما أنك واجدُه في زيارتهم للولايات الأخرى وأماكنها التاريخية، أو الترفيهية، وهكذا من غير كللٍ ولا ملل، ستجده في كلّ مكان معهم، ولستَ بفاقدِه إلا وأنت على سلّم الطائرة مغادراً هذا البلد الجميل الأصيل.

لقد كان في وُسع الرجل أن يُنيب عنه أحد مساعديه في مرافقة الوفود في حلهم وترحالهم، ولكنه لم يفعل ذلك بل قام بنفسه على مدى عشرة أيام كاملة، شهدَتْ فيها الجزائر واحداً من أرقى الملتقيات الدولية، التي أتيح لي أن أشارك فيها على امتداد أربعين عاماً من رحلتي مع الشعر والإبداع.

□ ومن الطريف أنه – بسبب ضخامة ما ينوء به من مسئولياتٍ قومية – يندر أن تراه مبتسماً، إلا إذا كان في مراسم الاستقبال أو التوديع في المطار.

□ على أني – إذا نسِيتُ – لا يمكن أن أنسى الجمال والإمتاع في تلك الليلة الحافلة، التي سطعت أضواؤها وألوانها في قاعة الأندلس البديعة، حين تقدّمت عارضات الأزياء الشرقية الراقية، يعرضن أحدث ما توصّل إليه المقصّ الجزائريّ الماهر في تفصيل ملابس الشرق الفخيمة المستمدة من نمنمات الفن والإبداع الأندلسيّ الذاهب ، تلك الملابس التي قامت بتنفيذها مُصمّمة الأزياء العالمية الدكتورة ”السيدة زمزوم “، فملأت أفئذتنا بالحنين الجارف إلى زمان الخلافة في الأندلسِ الضائعة :

جادك الغيثُ إذا الغيثُ هما يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ

□ وحين صعدَتْ مطربةُ جبال الأوراس – السيدة ” الشابة يامينة “ – إلى خشبة المسرح، لم تلبث أن فتحَتْ حنجرتها الذهبية العميقة على فضاء شاسع من الأداء الجبليّ الآسر، وهي تشدو للهمّ العربيّ، وللعواطف الإنسانية، ولأمجاد الجزائر الشامخة، بصوتها الرنّان إحياءً لمجد الإنسان في كل مكان، فكانت جنبات القاعة ترتجّ إيقاعاً وطرباً، وتجاوبَ أصداءٍ وأنغام، وكان الفرح والشجن يستحوذ علينا من جميع جوانبه، فامتزجَتْ أسماعنا بصوتها العميق، وامتلأت أفئذتنا بفيض لا حدّ له من المشاعر والأحاسيس ليختلط الماضي بالحاضر ويمتزج الحاضر بالمستقبل، وتتحوّل قاعة الأندلس الفخيمة إلى كرنفال حاشدٍ بالصوت والضوء واللون والحركة والأنغام والعطور، في سهرة ما رأت مثلَها من قبلُ عينان.

□ كانت القاعة الوسيعة – المزركشة جدرانها وسُقُفُها بالنقوش الأندلسيّة والزجاج المعشّق بشرائح البللور والصّدف الملوّن – تعكس الأضواء الساقطة عليها، فتحيلنا إلى أمواج قوس قُزَح مستلذين بتناغم الأصوات والألوان والأضواء في جنباتها الفسيحة، وكانت القاعة ممتلئةً عن آخرها بوجهاء الولاية، وسيدات المجتمع الجزائري، وكبار رجال الفكر والفن والأدب، ونجوم الشعر والغناء والطرب وعائلاتهم الكريمة، ورغم هذا التعدّد والتنّوع في الشخصيات والعائلات والوجوه إلا أنّ الجو العائليّ الحميم هو الذي كان يفرض سلطانه على المكان، فالكل في واحدٍ والواحد في الكل، فلا ترى في القاعة إلا عائلة واحدة كبيرة اسمها الوطن العربي نزلت بخيمتها وضربتها في جنبات القاعة الفخيمة بمدينة البليدة إحياءً لمجد الأندلس الغابر، وتتويجاً لعروبة الجزائر ولقوميّتها العريقة التي تميّزت بها.

□ لم تكنِ السهرةُ – إذن – مجردَ حفلٍ فنيّ من المستوى القوميّ الرفيع فحسب، بل كانت عُرساً أُسَريّا حميماً، غلب عليه المعنى العائلي الكبير، الذي يستعصي على الوصف والبيان.

□ صدقتَ يا صديقي العالم الجليل الأستاذ الدكتور عبدالكاظم العبودي، حين قلتَ لي أثناء توجّهنا إلى هذا المحفل : هذه ليلة لن تنساها أبداً.

□ حقاً يا سيدي، لن أنسى مدينة البليدة ولياليها العشر، وخاصةً هذه الليلة التاريخية، وليس في حوزتي الوجدانية ما أعبر به الآن غير هذا البيت الشعريّ الجميل للشاعر الراحل الكبير فاروق شوشة إذ يقول :

قد يُطاقُ الجمالُ فرداً ولكنْ كلّ هذا الجمالِ كيفَ يُطاقُ !

اترك تعليقاً