حين ظهر الإنسان العاقل، وهو يمتلك ما جعله يتميز عن أسلافه وعن بقية الكائنات وهو العقل. منذ ذلك الحين أصبح العقل البشري هو مركز قيادة الحضارة البشرية. الحضارات كلها التي نشأت وازدهرت على وقع قدرات العقل في التخيل والتفكير والإبداع من أجل حل المشكلات التي واجهتها حياته. وحين تراجع العقل في أي حضارة، وصعد أمامه الجهل والخرافة المعلبة انهارت تلك الحضارات، وأصبحت مجرد تاريخ.
مع التطور والتسارع التكنولوجي وظهور الذكاء الاصطناعي بكل تلك القدرات الفائقة القابلة للمزيد من التطور المخيف نجد أنفسنا أمام سؤال وجودي هام هل ما زال العقل البشري قائدا مركزيا للحضارة الإنسانية؟ كما أنه في السنوات الأخيرة ظهرت العديد من المفاهيم الحديثة التي تعيد توصيف العلاقة بين المعرفة والذات والسلطة وغيرهم، ومن هذه المفاهيم نجد صعوداً لمفهوم ما بعد العقل، والذي يطرح تساؤلنا على طاولة الحضارة.
العقل البشري هو أداتنا لمعرفة العالم وإدراك ذواتنا فهو خلية نشطة والإدراك والتحليل، والتخيل، والتذكر، والإبداع. الكائنات كلها تمتلك مخا يدير قدراتها المادية فقط الإنسان هو الذي يمتلك عقلا يدير تخيلاته وإدراك ما وراء المادة. يبقى العقل بكل ما له من قدرات مقيدا بالعديد من القيود الحتمية ذات الصفة الطبيعية مثل النسيان والانحياز العاطفي والعطب المادي الذي يؤثر في الإدراك والوعي وغيرها من تلك القيود التي في النهاية تمثل قيودا أمام قدرات العقل، فتصبح ذات حدود وقدرات وطاقة تنفذ في لحظات ما.
وفي لحظة تمرد العقل البشري على قدراته المكبلة صنع عقلا آخر وضع له القدرات كي يواجه محدوديته فكان الذكاء الاصطناعي هو وسيلة العقل البشري للتمرد على تلك القيود. وأصبح يمتلك قدرات تفوق العقل البشري في معالجة الأفكار وتحليل البيانات والترجمة، ووصلنا إلى الإبداع الأدبي، ولا يخفى علينا تطبيق Chat GPT بقدراته الفائقة والذي أصبح يكتب الشعر والروايات أيضا وكذلك قدرة السيارات Tesla على القيادة الذاتية واتخاذ القرارات التي ترتبط بالموت والحياة. لقد تمكن العقل البشري أن يصنع عقلا يجاريه ويتخطى قدراته الحسابية، ولكن يبقى السؤال هل الذكاء الاصطناعي قادر على التخيل خارج أكواد برمجته؟ وقادر على أن يصنع فكرا أم أنه في النهاية معالج فائق للبيانات؟
كمتأمل في حقيقة الأشياء أدرك أن الذكاء الاصطناعي غير قادر على التخيل مثل العقل البشري، بل هو يعالج البيانات، ويعمل على تجميعها وإعادة تركيبها وفق احتمالات واسعة تعطي مساحة كبيرة من عدم التشابه فتبدو فريدة، ولكن في حقيقتها هي مجرد معالج فائق للبيانات. إن الذكاء الاصطناعي يمتلك ما يشبه الوعي البشري، لكنه لا يمتلك اللاوعي الذي أشار له سيجموند فرويد أنه المصدر الأساسي للسلوك الانساني وأيضا لقدرة الإنسان على التخيل وإنتاج الفكر، ولا يمتلك قدرة الإنسان على الوعي بالذات والشك والتأمل والربط الوجودي بين التجربة والمعنى، كما أنه غير قادر على اتخاذ موقف أخلاقي خارج إطار البرمجة التي صُمم عليها، فإن بُرمج على شيء لن تتغير نتائجه حتى يُغير الإنسان تلك البرمجة، ويعيد كتابة الأكواد الأساسية، أو يُعدل قواعد عمله أم العقل البشري فلديه مرونة الوعي التي تجعله يغير قناعاته ومعايير إنتاج الفكر والسلوك.
من هنا يمكن أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي يكمل العقل البشري في تحقيق ما فوق قدراته والمفارقة أن هذا العقل البشري المكبل بقدراته هو من صنع الذكاء الاصطناعي الذي تجاوز به هذا التكبيل، ومنحه قدرات إضافية. ولكن يظل العقل البشري متفردا بالوعي، وإدراك القيم، والعاطفة، والضمير.
لكن تلك النتيجة لا توقفنا عن طرح سؤال هل يمكن الوصول إلى مرحلة ما بعد العقل حيث يدير الحياة الذكاء الاصطناعي؟ قد تبدو الإجابة عن السؤال مثل فيلم هوليودي، لكن الطرح لا بد أن يجد مكانا في رؤيتنا تجاه المستقبل. قد يظن البعض أن هذا لو تحقق سيخلق عالماً يسير وفق أنماط وضوابط صارمة، وقد يصبح العالم أكثر رخاء، وقد تختفي الصراعات، لكني أرى أن الأمر لن يكون مثاليا كما يراه هؤلاء فما وراء العقل سيصاحبه مخاوف أخلاقية حادة، وسيغيب الضمير وتحضر الحسابات الخالية من القيم والأخلاق والمشاعر، وستتحول الحضارة البشرية إلى ديستوبيا منظمة مثل عالم جورج أوريل في روايته 1984.
إن المستقبل في صورته الأفضل هو استمرار قيادة العقل البشري للحضارة على أن يظل الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز هذه القيادة الواعية صاحبة الضمير والقيم الأخلاقية من أجل أن نحافظ على إنسانيتنا حية تتحكم في علاقاتنا ببعض على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات.
التطور هو حتمية وجودية لا يمكن إيقافها ودائما يسير في اتجاه تحقيق منفعة للإنسانية والقضية التي يجب أن تظل قيد العمل دائما هو ألا يفقدنا التطور إنسانيتنا وضميرنا الأخلاقي.
شريف مصطفى محمد
العين 2025