حين يصبح الشاعر ذاكرة أمة… مسعود شومان نموذجًا بقلم :عبدالله السلايمة

في الأزمنة التي تتآكل فيها الذاكرة، وتتراجع فيها الثقافة الشعبية أمام ضجيج العابر والمصطنع، ينهض بعض الشعراء لا ليكتبوا فقط، بل ليعيدوا للناس صوتهم، وللتراث نبضه، وللأمة ملامحها الروحية. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم مسعود شومان بوصفه شاعرًا لا يكتفي بالقصيدة، بل يزرع في كل حقل من حقول الثقافة بذرةَ وعي، وغصنَ انتماء، ويطرح أسئلة يفتح بها الطريق لاكتشاف الذات الجمعية في مرآة التراث والمقاومة.
وُلد شومان في السادس عشر من يناير عام ١٩٦٦ بمدينة شبين القناطر بمحافظة القليوبية، في بيئة تشبهه ويشبهها، حيث تتجاور الأناشيد مع المواويل، وتخرج الحكايات من قلب الطين، وتمتزج اللغة بالحياة، والشعر بالعادات اليومية.
كانت هذه البيئة الريفية الغنية بموروثها الشفاهي نبعًا أوليًا لوعيه الشعري، ومدرسةً أولى لصوت القصيدة وهو يتخلق من فم الفلاّح، لا من رفوف الكتب.
درس القانون، لكن صوته الداخلي كان يميل إلى جهة أخرى؛ جهة أكثر حياة والتهابًا، فاختار درب الشعر والتراث، وقرر أن ينحاز إلى الوجدان الشعبي لا إلى الصيغ القانونية الجامدة.
التحق بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، فجمع بذلك بين الحس الفطري والدرس الأكاديمي، بين المعايشة الحية للموروث وبين مناهج التأصيل والبحث، ليصبح واحدًا من أبرز حماة الثقافة الشعبية في مصر الحديثة، لا باعتبارها أرشيفًا من الماضي، بل بوصفها منجمًا روحيًا وحضاريًا لم يُستثمر بعد كما يجب.
يمتلك شومان مشروعًا ثقافيًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الشعر بالتراث، والبحث بالسياسة الثقافية، والقصيدة بالمجتمع، فمهمته تتجاوز حدود “الكتابة” إلى بناء وعي جمعي يربط الناس بتاريخهم الوجداني، ويمكّنهم من التعبير عن حاضرهم بأدواتهم الأصلية.
كتب بالعامية المصرية ديوانًا بعد ديوان، وكانت قصائده دائمًا مشبعة بروح الجماعة، بالحنين الصادق، بالغضب النبيل، وبالإيمان العميق أن القصيدة يمكن أن تكون وسيلة للمقاومة، ومكانًا للبوح، ومنصة للاحتجاج.
في دواوينه مثل “رجلي أتقل من سنة ٦٧”، و”اخلص لبحرك”، و”بس مين يفهم”، تتجلى رؤيته الإنسانية والسياسية، حيث تُعاد قراءة التاريخ من موقع الناس لا من خطاب السلطة، وتُروى الهزائم والانتصارات من قاع المجتمع لا من أبراجه. فهو شاعر يعرف أن المعركة الحقيقية ليست في النصر الظاهري، بل في حفظ الكرامة، وفي قدرة الناس على أن يظلوا بشرًا رغم القهر والتهميش.
ولأن الشعر وحده لا يكفي، لم يتوقف شومان عند القصيدة، بل امتد حضوره إلى فضاءات البحث والتأريخ والتوثيق. قدّم دراسات تأسيسية في الموال والقصيدة الشعبية، وحرّر مربعات ابن عروس، وكتب معاجم نادرة في الشتائم والمصطلحات الشعبية، ما يجعل جهده متفردًا في ربط الأدب الشفاهي بالدرس النقدي، وفي تحويل اللغة اليومية إلى مادة إبداعية جديرة بالتأمل.
كما شارك في توثيق تاريخ الشعر العامي المصري منذ عام ١٩٥٢، مساهمًا في إضاءة مساحات ظلت معتمة داخل سردية الثقافة المصرية الرسمية.
هذا المزج بين الأرشفة والإبداع، بين الصوت الأكاديمي والصوت الشعبي، منح مشروعه نضجًا وعمقًا، وجعله صوتًا نادرًا في المشهد الثقافي، قادرًا على عبور الفجوة بين المثقف والمجتمع، بين الشعر والناس.
وحين تولّى مسؤوليات ثقافية رسمية، كقيادته لهيئة قصور الثقافة، أو لإدارة الثقافة العامة، لم يتحول إلى بيروقراطي، بل ظل يحمل القصيدة في قلبه، ويرى في المنصب منبرًا إضافيًا لخدمة ما آمن به، لا امتيازًا شخصيًا.
وفي زمن يتسارع فيه التهميش الرمزي للثقافة، وتتهاوى فيه الجسور بين الإنسان وجذوره، يقف مسعود شومان كشاعر حارس، لا يكتب الشعر فحسب، بل يحرس به الذاكرة من التآكل، والهوية من التبديد.
إنه لا يرى التراث كصندوق من الغرائب، بل كجسد حيّ يتنفس عبر الأغنية، ويشعّ في القصيدة، ويتجدد في وجدان الأجيال.
وقد جسد هذه الرؤية في أعماله الفنية أيضًا، حين كتب أشعارًا للمسرح والدراما، دون أن يُفرّغ الشعبي من روحه، بل زاده عصرية وعمقًا، كمن يصر على أن الشعر الشعبي لا يموت، بل يتحوّل ويتكيّف وينبض من جديد.
في صوته، نسمع الأنين والقهر، لكننا نسمع أيضًا الحب والمقاومة. في لغته، يختلط الطمي بالحكمة، والنكتة بالألم، والبيت الشعري بالهتاف الشعبي. لذلك، لا يمكن اختزال مسعود شومان في شاعر فقط، بل هو مزيج نادر من الشاعر والباحث والمُجدد والناشط الثقافي، وهو فوق ذلك ذاكرة تسير على قدمين، تحفظ التراث لا في أدراج المكتبات، بل في صوت القصيدة، في لعب الأطفال، وفي عيون الفلاحين.
إنه نموذج نادر للشاعر الذي لم تنسه المكاتب رائحة الأرض، ولم تُخرسه المناصب عن سماع أغنية الحصاد. شاعرٌ ظل وفيًّا لفكرته الأولى: أن الشعر إذا لم يُولد من قلب الناس، فلن يعيش. وأن التراث إذا لم يُروَ ويُغني ويُعاد اكتشافه، فسيتحوّل إلى عبء لا إلى منارة.
وفي زمن تتصاعد فيه أسئلة الهوية، وتتفتت فيه الروح الجمعية تحت وطأة العولمة والتهميش، يبقى مسعود شومان أحد الأصوات التي تذكّرنا بأن الثقافة ليست ترفًا، بل شرطا للبقاء، وأن القصيدة ليست مجرد تعبير جمالي، بل صرخة في وجه النسيان، ونداء حميمي يعيدنا إلى جذورنا الأولى.

قد يهمك أيضا:

قصيدة من الشاعر محمد عبد القوي حسن للشاعر مسعود شومان بمناسبة عيد ميلاده