حكمت توفيق بشنق ما بين ترانيم الصمت وأشرعة الهذيان.. قراءة :الشاعرة د.أحلام غانم


قد يكمن الصمت خلف المقول ،ربّما لأنه فضاء غير مكتمل – بنية مغامرة –سؤال أبدي –عدمي – كوني ،يبرز لنا في الكتابة، هو حتماً البياض، أي أنه “مسافة محررة ذهنيا”. وهذا ما جعل أشرعةُ الأدباء اليومَ بالغةَ البساطة والتعقيد ،و يمتلكون آلية الرحيل والرجوع عن الوصول وتجاوزها في آن واحد، هذا وقد خسرنا، بتعوّدنا على تحمّلِ القهر والشجن، حسَّ الثقةِ بالتوجّه إلى مركز المسكوت عنه فأصبنا بالهذيان.
وإن كان لنا أن نتحدّث عن أدب الصمت أو عن لغة الهذيان في الأدب من هذا المنظور ،ومن هنا نجد أن الأدب، والأديب قد تحوّلَ ضدّ ذاته، ويتوقُ إلى الصمت أو إلى الهذيان، يمضي في بحورٍ وفي علامات غير منطوقة وفي تلميحاتٍ مقلقةٍ من الانتهاكِ.
لنا أن نتساءل إذاً : أيّ أشرعةٍ يلوّح بها الشاعر “حكمت توفيق بشنق ” واللغة تحصن نفسها من كل الاقتحامات والخروق؟
كيف للأديب تفعيل حركة تحصين الهوية الشعرية ؟وهل توجد صفات ثابتة تميِّز النص الشعري وتمثل شعريته في ظل التحديات التي تجابهها الشعوب ؟ لعل هذا ما جعل جيرار جينت توضيحه من خلال قوله :أنَّ النَّصَّ لا يعنيهِ إلاَّ منْ حيث “تعاليهِ النصيِّ”، وهو مَا يعني عندَه معرفة كلّ ما يضعُهُ في علاقةٍ – ظَاهرةٍ أو خَفيَّةٍ – مع نصوص أخرى.
لذلك ، الكشف عن المسكوت عنه الذي يمثل الصمت ببعديه الجمالي والفلسفي لا ينكشف إلا من خلال التلقي والتأويل ..لأن وظيفة إخفاء المعنى هي واحدة من أهم بؤر النص المحدث ،التي نراها ماثلة في (الصمت ) الذي يمثل الإخفاء المستمر للمعنى .
وهذا يحيلنا إلى سلوك معرفي للإحاطة بالصمت والكشف عن أبعاده اللغوية والاصطلاحية بوصفها مقتربات نقدية له ،فالصمت وفق انطلاقات اللغة المعرفية هو :
الصاد والميم والتاء أصل واحد ، يدل على الصدمة أو الصبر على المسرة أو الموت والمحبة أو التمرد.
فهل يكونُ الوجودُ عندئذٍ، وبكاملهِ، غريباً أو مجنوناً او مصاباً بالهذيان أو على الأقل كلّ مَن يزاولُ الأدبَ؟
مع أني لا أثقُ في أن الكلمةَ تُنهك فارس الريح على شفاه القصيدة ، إلا أني أعترفُ بأن الصدمة تذهب وتعود بترانيمٍ حاذقةٍ على أوتار العشق في عرس السكينة.
ورغم أن الصوفيين زعموا أن الكتابةَ هي سبيلٌ للخروج، وأن نهاياتِ الأشياء تؤذِنُ ببداياتِ الجديد ـ مفارقةٌ سلبية، لكنها صيغة للمفارقة .
برغم هذا ،الصمتُ في الأدب ليس نذيراً بموتِ الروح، بالضرورة. ..أو ربّما يشكل بوصلة لاستكشاف دروب الصيرورة الإنسانية.
“حكمت توفيق بشنق “، شاعر عربي لبناني، جعل من أوتاره أشرعةً للهذيان ،وملتقى للإبداع الشعري والأدبي راسماً بذلك عالمه الموسيقي الخاص ..
يخلق طيفاَ شعرياً هائماً عن طريق البحث عن نصفه الآخر في بصمات الصمت العبثية وظلمات الغياب اللا متناهية.
فالشعر، لغة الصمت، والغياب صوت “الأنا” في حالة التيه والضياع.
حُلمٌ يُحوّل خالق القصيدة من حالة البحث عن الذات الى حالةٍ فوضوية شبيهة بالعمر الغارب. وهنا يحاول الشاعر ترجمة الإحساس بالفراغ، وعبثية الحياة بالصمت، وصراع اللغة بنشيج الحبر .
وهكذا يمكن القول،يعقد الشاعر حكمت بشنق مع الصمت صلة مميَّزة ،وهذا صمت يعد جزءاً لا ينفصل عن الهذيان أو الترانيم بما أنه يندرج في الحركة الإيقاعية لولادة المفارقة المستحيلة للقصيدة ويكون توهجها أيضا قبلة للشفق وأبعد من حلم يسافر نحو الآخر في المجهول ويحمل معه المتلقي نحو كل ما في الذات المُوجعة من ألم ولوعة وحنين واغتراب.
يعتمر قبعة أحلامه و في هدأة الحلم ورعشة الحنين يضع في نهاية هذيانه قبلة ،ونقطة، ويرسم بالنقاط والقبل المتتابعة شفتين شعريتين صامتتين ،تتعطل ترانيم البوح وينحبس الصوت ويجد القارئ نفسه يجثو ويصلي وحيدا ،مجبرا على فك حبال الصمت ومراقصة أشرعة الهذيان على طريقة الدراويش. ولنعرف ماذا يقول الآن بعد أن طال الصمت وتمادى إلى حد أن كسر الأقواس وجعل ما بينها من كلمات تنازع بصمت :
“كان يصلي..
وأصوات مآذن
وأجراس ٌ تقارع الصوتَ
وصراخُ أماكنَ
وأقواسٌ تنازع بصمت
هي الأخرى ..تصلي /ص-105 /ترانيم
تتخذ قصيدة النثر عند الشاعر حكمت بشنق في مجموعتيه “ترانيم غلى أوتار العشق” و”أشرعة الهذيان ” الصادرتان عن دار المؤلف في بيروت شكل جراح مطولة فيها الهمس الحائر هو المهيمن الدلالي الذي ينزاح من خوابي الروح نحو آفاق رحبة ومتسعة من التأويل.. بل هي ترانيم ذات عاشقة في حالة صيرورة لا تتوقف إلا مع الموت.
وما بين ترانيم العشق وأشرعة الهذيان والولادة والاعتراف تتلاشى أثواب الحياة في النص لتكون حورية من غناء تقبع في عمق الحلم والخيال وتمتد إلى مرافئ اللهفة… عبر سلسلة ثنائيات من الغيرة والتجني وبين الحقيقة الجارحة والوهم والسراب يمتصها سكون الشطآن وخلافات المحبين .
على هذا النحو يترنّح الشاعر بين الحلم والخيال ،يراقص لهاثَ الأشرعةِ المترنّحةِ جَذلا ،وتتمسك أشرعته بأوتار العشق و تندرج تحت عنوان رئيس واحد وتنزاح دلالاتها عن المعتاد لتمتد في فضاء المعاني المازوشية اللامتطابقة والألفاظ المتضادة في سطور لا ينظمها تشكيل نصي، بل هي تجمع بين الأقصوصة والخاطرة والسيرة والمذكرة والحوار والمشهد، لتأتلف هذه الأجناس كلها تحت لواء قصيدة النثر المطولة، التي شعارها الفوضى ووسيلتها التمرد والتفكيك وبغيتها التحرر والانفلات وهذا ما ظهر جليا في مازوشية “بشنق” :
يفنى الصوتُ في المدى
ويبقى المدى..
يبقى رحم المعاناة
يولدُ القهر
وخلافات المحبين
مازوشيتك
تورّطني في الخطيئة
ولست وحدك تحملين هذه الصفة
إنها الأرض ..إنه الأفق ..إنه الكون “ص-113 /ترانيم
فالعنوان حسب جون كوهن :” جزء من التشكيل اللغوي للنص ” يقيم تعالقه أفقياً وعمودياً لإنتاج الدلالة ، وتحفيز القراءة ، واستثمار المساحة الجمالية المعنية بأفق التوقع .
وعليه ،بدا الهذيان عنوانه المعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يمور بداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبث بمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماط الاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عن قهر الذات.
و على حين غرة ترسم خطاه الحروف ويمشي كما تمشي النجوم، متحركاً وثابتاً ، إلى أن يصل إلى أوردة العشق
وهنا، يبرز نشيج الذات و إيقاع الشموع المؤطر بأنفاسها و جنونها، كقاعدة لسيناريو المشهد المتماوج، وهو يتلو الصلاة ،فيبزغ فجره ،و وينسج الصبح رداءه المخملي ،فيبتعد عن القريب إلى تلاوين اللازوردي والأرجواني، ليصل إلى “منضدة البوح “، و”شكوك البوح ، وتبتسم له الجراح فيغيب في الحبر، كناية عن اللا نهاية واللا محدودية التي تتسم بها حركة التوغل الأزلية في توقها إلى الخلاص لتسحب الذات مرغمة إلى اللا زمان واللامكان ..حيث يقول :
وحدهُ الأمل ُ الراقدُ في زوايا الروح المعتمة
يناغش الضوءَ المنبعثَ من فتحةِ النهاية
وحدها ..روحي التائقة إلى الخلاص..
تغنّي ..تنتظر بفارغ الصبرِ فكَّ قيودِها
لتنسحبَ مُرْغمةً إلى اللازمان واللامكان .-ص-127/ا.هذيان
لقد تحركت الشعرية في قصائد المجموعتين إلى مناطق شديدة الارتباط بذات الشاعر من جهة وذات المرأة كمفهوم اجتماعي ،كقيمة كونية تتوحد فيها كل صفات الأنوثة لتخلق لنا قصيدة خصبة لها حضورها في الماضي والحاضر ،فاستطاع الشاعر أن يكوّن رؤيةً متفردةً لهذا المرأة التي يبحث عنها فوق الغيم ويرسم وجهها بريشة الشوق والقول :”أحسُّ بنبضكِ يحرس أحلامي
ويخطُّ بريشةِ الشوقِ
صمتَكِ الغائب
فتمتزج ألوانُ ذاتي
فوق لوحة تنهداتي
وصفاء الشتياقي” –ص-220- ترانيم
بهذا المعنى وعبر هذا المسار المورفولوجي يستدرجنا الشاعر الى اختبار دفاتر عشقه وحديقة عمره وعروس بحره بحساسيّة عالية يغامر بالمحظور ويلثم تفاحة الخطيئة فيقع فريسة الرمز.
كما نلاحظ ذلك في هذا المقطع :
“اغامر في المحظور
أمسك بيدكِ
ألثمُ تفاحةَ خطيئتي
وبغنجٍ…أورّطُ براءَتك
ونتحوّل مجدّداً من أسطورة عشق
إلى رمز خطيئة .”-ص225-/ترانيم
وبمزيج حلمي سوريالي وبأحضان الضباب يحاكي هيولى العينين، و يؤسس الشاعر بنية شعرية أيروتيكية تكشف ملفوظاتها السحرية شفاهية لسانية تتمثل في الشغف العميق لتقويل الفكرة وتماهي الأنا من خلال جوهرها لبث ّأنوثة الحياة في سؤال الروح عن الآخر في مشهدية جمالية يتجلى فيها كلُّ شيءٍ مُباحٍ والوجود الشخصي والمتخلق بالشهوة وإسباغ دينامية حسية تنتج عن الفعل المجهول المترامي خلف حدود المسافة للذات في تناصها مع الفعل الإبداعي في فضاء اللامعقول.ونسجل هذا التماهي في قوله :
سأزاوج بين روحي المحلّقةِ
في فضاء اللامعقول
وبين روحكِ التائهةِ الضائعةِ
خلف حدودِ المسافةِ ومجاهلِ الانتظارِ
فيتبدّلُ مسارُ التكوين بنا
ونكونُ نحنُ.. لآدم وحواء جديدين ..
أوَّلَ ولادة .
وملاك القول : الشاعر حكمت بشنق يرتكز في مجموعَتَيْهِ على مجموعة من السمات، أهمها:
* الحالة النفسية المضطربة للذات في عالم العزلة والوحدة حيث تختلط الآهات بألوان الشفق، وتصبح الشفاه مرايا الفراغ و أجنحة الأحلام العبثية الباردة فوق الغيم مع الريح.
* حالة الشجن والأنين التي تظهر من خلال التركيز على الفراغ وتصوير الذات المصلوبة على خشبة القهر في حالة من التيه والضياع والتعاسة وتبدو في جبروت أنثى.يقول :أنا هنا ونفسيض المثقلةُ بالكآبةِ/تتنقلُ بصحبة الموج الهادرِ/ فوق بحرٍ من أحزانٍ ../حملني البؤسُ ..عشعشَ في داخلي الوهنُ/ وأنا بعدُ ..طفل /ص-128 ..هذيان
* أسلوب الحوار والخطاب الموجه للأنثى، فالشاعر يعيش غربة الروح ويخاطب نفسه عن طريق الأنثى فنجده في محاولة الانسلاخ عن ذاته، حيث إن «أنا» الشاعر تتحول في كل صرخة صمتٍ الى مرآة للصدى تعكس الأزمة الوجودية والوجدانية التي يعيشها العالم ، فيخاطب الشاعر الآخر من خلال إحياء بعض لحظات الحلم المفقودة ويعلقها على جدار الأمنيات.
فهل التزم الشاعر بالإفصاح عن حبيبته وعن كل ما تبقى من أشرعته ؟ أو أنه اكتفى بالإشارة عن بعضها ، فعبر ضمنياً عنها بين ثنايا قصائده ؟ عن أي “ليلى يتكلم الشاعر ؟ وقد قال ابن سينا قديماً ” الصراع النفسي الناتج عن حرمان الشاعر من إشباع حاجته تنتج حالة من عدم التوازن النفسي والتوتر تدفعه إلى البحث عن وسيلة تعيد له توازنه وتخفض توتره وتشبع حاجاته ” والتعويض عن حالة التوازن النفسي والاجتماعي والوجداني / العاطفي لا يتأتى إلا عن طريق الكتابة .
في هذا المعنى يبدو أن المعنى العميق للصمت في شعر “بشنق” ليس في معنى الكلمات التي يؤلفها إنما يتعلق ذلك بانفعالات القارئ وحساسيته وقدرة المعرفة الكامنة بداخله ليجعله يصل وهو في حالة تشبه الهذيان إلى أمنه اللغوي ووجوده الحي عبر قول مارسيل بروست :”إنّ أيسرَ رغباتنا شأناً، وعلى الرغم من تفرّدها لحناً، تتضمّن النغمات الأساسيّة التي تقوم عليها حياتنا” .

اترك تعليقاً