العيون الزرقاء قصة قصيرة بقلم / علي حزين

العيون الزرقاء
قصة قصيرة بقلم / علي حزين
خشي ان يتأخر .. ويفوته اللقاء .. لذا خاف ان يأخذه النوم .. فظل مستيقظا حتي الصباح .. فهو دائماً يحرص علي مواعيده .. يحب السهر .. والاستيقاظ متأخرا ديدنه ….
في الصباح الباكر .. صنع كوباً من الشاي المغلي .. غسل وجه .. لمع حذائه .. كوي قميصه .. ارتدي ثيابه الأنيقة .. عدل من هندامه .. أشعل سيجارته .. وهو يجمع أغراضه .. نظر في ساعة الحائط .. برهة من الوقت .. جلس يفكر فيها .. رتب اشيائه في رأسه .. وما يجب ان يفعله في هذا اليوم .. تلفت يمنة ويسرى .. ربما يكون قد نسي شيئاً ما .. وعندما تأكد له انه لم ينسي شيئاً .. مرق كالسهم في نهر الشارع .. وفي الطريق, تذكر انه لم ينظر في المرآة .. تمتم في نفسه : ” لا بأس ” .. صعد الي المحطة .. وهو يتحسس جيوبه .. خشية ان يكون قد نسي شيئاً اخر.. سأل عن القطار الذي سيقَّله .. جلس علي اقرب اريكة فوق الرصيف .. أخرج كتاباً من حقيبته .. فهو كثيراً ما يصطحب بعض الكتب في حقيبته عندما يمون في سفر طويل .. وراح يستغرق في القراءة .. برغم الزحام الذي يملأ الرصيف .. حتى حضر القطار , رمي نفسه بداخله .. حشر نفسه وسط الأجسام المتدافعة .. لا يدري كيف من شدة الزحام استطاع ان يجد لنفسه مكانا .. بالكاد خلف الباب المغلق .. وقف تحاشي الاجسام الضخمة .. المندفعة التي تخبط فيه كلما مرت بجواره .. والبائعون الجائلون في القطار .. يدفعون الناس وهم ينادون علي سلعهم
” السفر قطعة من العذاب “.. قالها في نفسه .. بصوت منخفض .. بالكاد يسمعه من بجواره ..وهو يتهيأ للجلوس علي ارضية القطار .. في وضع القرفصاء .. يبتسم في وجه كل من ينظر اليه .. المكان مزدحم جداً .. لكن الجو كان ربيع .. وممتع ايضاً …
للحظة شرد بذهنه .. تخيل المكان الذي هو ذاهب اليه .. وتخيله في رأسه .. وأعطي لنفسه إيحاءً بأنه سوف يكون سعيداً جداً هناك .. تذكر اصدقائه الذين سيذهبون معه الي هناك .. فهم مدعون مثله إلي المؤتمر ..
” هم دائما يتعمدون اقصائه .. يذهبون بمفردهم دوماَ .. دون ان يأخذوه معهم .. او حتى يخبروه .. وعندما يعودوا . يتحدثون امامه عن المكان . عن المكان , والاشخاص الذين التقوا بهم هناك .. وكيف كانت حفاوة الاستقبال بهم .. وما اتوا به معهم من هناك .. وكيف.. وكيف .. وهو يستمع اليهم .. ويتمني لو كان معهم .. ولو لمرة واحدة ..” ..
ها هي الفرصة قد حانت .. سيكون اليوم معهم هناك .. ولأول مرة في حياته .. نداً بند , ورأساً برأس .. هم اخبروه بذلك .. وطلبوا منه ان يتهيأ للسفر .. ولا يتأخر عن اليوم المحدد .. وبأنه قد وضع أسمه ضمن المشاركين في المؤتمر.. لكنهم ابوا ان يصحبوه معهم .. كلاً منهم تعلل بأعذار واهيه .. كنوع من الهرب منه .. لا يهم .. المهم سيكون معهم هناك .. وسيحضر المؤتمر مثلهم .. وسينال نفس الحفاوة , والتقدير ويعود ليتحدث للأصدقاء مثلهم .. وسيتعرف علي الكثير , والكثير من الشخصيات المهمة هناك , والمرموقة ”
“والله بقيت مهم , وتدعي للمؤتمرات ..لا وايه بدعوى رسميه,هه هه “
عدل هندامه التي حرص .. على انها تكون جديدة وانيقة .. نظر الي شنطة سفرة .. كانت قابعة فوق احد الرفوف التي أمامه .. ..
تذكر .. ” اشتراها من تحت المحطة بالأمس .. خصيصا لهذا الغرض ..أعجبه لونها الأسود الامع .. وكنارها الازرق الفاقع .. رآها وهو في طريقة , لتخليص بعض الاوراق الهامة .. من اجل سفره هذا “..
تأمل في صمت .. الوجوه التي حوله , في عربة القطار .. وراح يستغرق في احلام اليقظة .. وراح يحدث نفسه ..:
ــ “لو تعرفوا مين انا .. ما كنتم تتركوني أجلس هكذا .. وتتجاهلوني هذا التجاهل البغيض .. غداُ سوف تعرفوا من انا.. ومن اكون .. عندما ترون صورتي وقد غزت الجرائد , والمجلات , وتشاهدوني وانا اتحدث اليكم عبر الشاشات .. وقد استضافتني كل الفضائيات .. وستأتون إليّ لتسلموا علي , ولتتعرفوا .. بل وتطلبون ان تتصوروا معي أيضاً ” …
سمع خبط شديداً ..علي الباب من الخارج .. التفت بسرعة فاذا بشابٍ معلق بالباب .. يريد ان يدخل .. وباب القطار موصد .. فقام هو وبعض الشباب .. بمحاولة صعبة لفتح الباب .. ازاحوا كل شيء خلف الباب.. وبالفعل استطاعوا ان يدخلوه .. شكر لهم صنيعهم .. وعاد كلاً الي ما كان عليه .. أما هو فقد ابتسم في نفسه .. وخجل ان يعود الي أحلامه مرة أخرى .. .. شد انتباهه امرأة .. تجلس علي الكرسي الذي امامه .. تحمل طفلا صغيرا.. تنظر إليه من حين لأخر .. وفي عيونها كلام كثير .. فطفلها يبدوا عليه المرض .. حاول ان يبتعد عن هذا المشهد الدرامي , المؤلم .. الصادم لمشاعره .. ولا يشده للتعاطف معه .. فينقلب كل ما بداخله , الي حزن واكتئاب .. وحتى لا يتأثر به ,, فهو عاطفي جداً .. وزيادة عن اللزوم .. فمن الممكن تتلبسه حالة شديدة من حزن , علي هذا الطفل .. وهو لا يريد ان يحزن .. وقد يتطور به الامر .. بان تزرف دموعة من اللاشعور .. فهو لا يستطيع ان يري احدا مريضا .. ولا يتعاطف معه .. أو يتأثر به .. تلك طبيعته , وهذا حاله .. فما بالك لو كان طفل صغير .. يراه يئن , ويتأوه من الالم ــ رباه ما ارحمك ــ
عاد بخياله الي المكان الذي سوف يذهب اليه .. والذي يجهله تماما .. غير انه سمع الكثير عن روعته , وجماله .. حتي بعض الاصدقاء حدثه ذات مرة انه يتمني ان يذهب , ليعيش في هذا المدينة البعيدة .. ويستقر بها , ويعمل فيها .. لما لها من خصائص , ومميزات رائعة , وجميلة .
ــ ” غدا ستعرض علي الجميع مواهبك الفذة .. وتجبر الجميع علي التصفيق الحار لك ” ..؟!! .
في تلك المرة .. خرج من خياله .. وشده من تداعياته .. صوت الكمثري وهو يقول له :
ــ تساكر يا حضرت ؟؟
ـــ ………
القطار ينساب بين الحقول .. والمزارع الخضراء .. يتخطى بلاد , ومدن في دقائق معدودة .. فجأة .. شعر بالأعياء , والتعب .. والجوع يفتك بأمعائه .. شعر بتنميله شديدة في ساقية ..أحس بأن قدماء لا تقوي علي حمله .. قام من مقامه .. فقد تعب من جلست القرفصاء .. قرر ان يقف حتي تذهب النميلة .. مع الالم المصاحب لركبتيه ..
ــ ” خشونة في المفاصل ”
هكذا قال له الطبيب .. حينما اشتكي منذ فترة من رجليه .. فذهب الي أحد الأطباء .. الذي وصفه له احد اقاربه .
ــ “عندك خشونة شديدة , ويلزمك راحة تامه .. وعدم القيام بأي مجهود حتى تخف ” .؟!!.
“.. تبت لك ايها الطبيب .. اي راحة تطلبها مني ..؟! .. وكيف لي ان أستريح ..؟!. ومن اين تأتي الراحة ..؟! .. وكيف أُضيع مثل هذه الفرصة الذهبية من يدي ..؟!. .. أبداً هذا لن يكون .. فتلك هي فرصتي الوحيدة للظهور .. ”
يخرج سيجارة صنع محلي .. يشعلها علي طريقة .. ” عادل امام ” هذا النجم السينمائي الذي يحبه كثيراً.. ويتمني ان يكون في نجوميته ” ..
ينظر في ساعة معصمه .. ليتعرف علي الوقت .. ” لم يزل في الوقت متسع ” .. والباعة الجائلين .. يمرون في ردهة القطار .. ذهابا , وايابا .. برغم الزحام , الشديد , بطريقة عجيبة .. وقد علت أصواتهم , تنادي علي ما يبيعونه .. كلا منهم علي سلعته .. يلقي اليه احدهم بكيس ,” لب أسمر ” .. فتحه واخذ يتسلى به .. فمازال في الوقت متسع .. تشجع غيره , لما راه قد أخذ كيس من اللب .. فألقي اليه بكتاب ” كيف تتعلم اللغة الانجليزية بدون معلم ” .. وغادره وانصرف .. أمسك بالكتاب .. قلبه بين يديه , وجده نسخة مختلفة عن كل مرة, قرأ فيها بعض الكلمات الجديدة , أعجبته .. فقرر ان يشتريها , ليضيفها الي مكتبته المتواضعة . أو يعطيها لابنه , الذي مازال في الابتدائية .. نظر خلف الكتاب .. كان مكتوبا عليه ” الثمن جنيهان ” أخذ نفساً من سيجارته ..عدل من وقفته ..القطار يقترب من احدي المحطات المزدحمة بالركاب .. طلاب المدارس تملأ الرصيف .. يتهيأ الركاب النازلون في المحطة القادمة .. اقتربوا من الباب .. وكلا منهم ممسكا بأغراضه .. القطار يزمجر وهو داخل علي رصيف المحطة .. يهدأ من سرعته قليلاً .. بعض الشباب لا ينتظرون حتي يقف القطار .. يقفزون بداخله بحركة سريعة , وجريئة , وخطرة في نفس الوقت .. وما ان وقف القطار حتى نزل اناس كثيرون ,, وصعد اكثر منهم .. حتي امتلأت العربة بالركاب .. وصارت أشبه بعلبة الكبريت .. او علبة السلمون .. وهو يشاهد بنات المدارس بذيهم الأزرق الجميل .. وطلاب الجامعات علي سنجة عشرة .. شباب في سن الزهور.. يملئون الدنيا ضجيجاً , وصخباً , وحيوية , وبهجة …
تذكر يوم كان طالباً جامعياً .. وكان يستقل نفس القطار .. كل يوم وهو ذاهب الي الجامعة ..” .. أبتسم في نفسه وهو يقول :
” كانت ايام جميله حقاً “
أخذ يتابع الطلاب الجامعيين .. وهم يتهامسون فيما ينهم .. شاب يجلس فتاةً جميلة بجواره .. حجز لها مقعداً .. من محطته التي ركب منها ..
تذكر .. ” تلك الفتاة التي كان يحبها .. وهو في الجامعة .. وكان يحجز لها بجواره دائما .. حتي تجلس لجنبه .. ولا يضايقها احد .. احبها حبا شديدا .. لكن للأسف لم يتزوجها .. لا نها كانت من اسرة غنية .. وهو من اسرة فقيرة .. لا تملك من حطام الدنيا شيء ”
تنهد تنهيدة قوية , وزفر زفرة حامية .. بها حرقة , ومرارة السنين .. ولم يرد ان يسترسل في ذكرياته معها .. لا نها ستؤلمه جدا .. لكنه طرح علي نفسه سؤلا صعب ..
ــ “.. يا تري فكراني ولا نسياني ” ؟!. ..
يتجه بوجهه خارج القطار .. من نافذة الباب الصغيرة المهشمة .. يأخذ نفسا عميقا من الهواء النقي , الذي يخبط في وجهه .. تنهد وهو يتابع جريان الحقول الخضراء مع القطار .. والفلاحون مبدورون في الارض الواسعة , مثل اشجار السنط , والنخيل .. شده مشهد جميل .. يصلح ان يكون لوحة رائعة .. في احدي المعارض الدولية .. أو هكذا راها هو ..
” احد الفلاحين جالس .. تحت شجرة سنط كبيرة .. يستريح .. وبجواره الفأس .. وامرأة مقبلة عليه بزيها القشيب , المطرز …وعلي رأسها صنيه مغطاة .. وبيدها الأخرى تمسك بقلة فخار ..وهي مقبلة علي الرجل بابتسامه عريضة .. ” ..
التفت للوراء , فاجأه .. بائع الكتب .. يسأله عن الساعة .. وهو يأخذ منه ثمن الكتاب .. نظر الي حقيبته .. ليتأكد انها لم تزل في مكانها .. لاحظ إحدى الطالبات , وقد ثبتت عيناها الزرقاء في وجهه .. يرتبك .. تبتسم .. وهو يحاول ان يتظاهر بانه متماسك .. يفتح الكتاب الذي في يده .. يدس وجهه فيه .. في محاولة يآسة منه للهرب .. تذكر المرأة وطفلها الصغير .. بحث عنهما بعينيه , فلم يجدهما .. تذكر رجليه التي تصل عليه, وتألمه .. وهو يختلس بعض النظرات .. الي صاحبة العيون الزرقاء .. تلك التي تنظر اليه , منذ ركبت القطار .. وهي لم تفك عيناها من عليه .. وكأنها تعرفه من قبل .. أو كأنها تقرأه .. أو ربما تريد ان تجرب مدي سحرهما , وقوة جاذبيتهما .. أو ربما شيئاً اخر ..
يقترب القطار من محطة الوصول .. ينزل حقيبته بيده .. وهو ينظر الي تلك الفتاة التي تتابعه عن كثب .. اقترب من الباب المفتوح .. نزل علي الرصيف .. فرد خطاه حتي يلحق بالمؤتمر .. الذي دعي اليه .. ولم يبدأ بعد .. ويخشي ان يتأخر عنه .. لكنه لم ينسي ان يلقي علي وجه تلك الفتاة الجميلة , ذات العيون الزرقاء.. النظرة الأخيرة .. لتكون ابتسامتها هي اخر شيء .. يعلق في ذهنه , وذاكرته وهو يغادر القطار …

الأحد 26 / 3 / 2017

 

يشرفنا زيارتكم واعجابكم بصفحتنا على الفيس اضغط هنا للاعجاب بصفحة مبدعى مصر

اترك تعليقاً