الرواية الشعر …. وتيار الوعى قراءة فى رواية ” فى الحلق بحر ميت ” لسمية الألفى “

 

الرواية الشعر …. وتيار الوعى قراءة فى رواية ” فى الحلق بحر ميت ” لسمية الألفى ” د/ شعبان عبد الحكيم    

-1-

سمية الألفى شاعرة وكاتبة قصصية ، وهى كاتبة ممتعة ، بحسها المرهف ، وكلماتها الشعرية المتدفقة من عواصفها المفعمة بالحب والعطاء ، تمتع الحس والعقل والوجدان ، وتعيّشك لحظات وجدانية ثرية ، نصوصها تحف أدبية تتجدد لذتها بقراءتها المرة تلو الأخرى ، لقد كتبت القصة القصيرة ، والرواية ،  والشعر ، فمن من إبداعاتها فى مجال القصة القصيرة أربع مجموعات قصصية  ( زهرة البنفسج ، عشق الدموع ، فراغات فى العناق ، كل خيط له شكل ناى ) وفى مجال الشعر لها ديوان شعر ” كائنات تدق مساميرها فى الهواء ” وفى مجال الرواية كتبت ثلاث روايات ( أرجاء بلا عالم ، ساحل المنتهى ، فى الحلق بحر ميت ) وسأقف بالدراسة على رواية  ” فى الحلق بحر ميت ” ولعلنا نلاحظ ومن العنوان أن الكاتبة تعتنى عناية فائقة بكل كلمة فى نصها الأدبى ،إنها تكتب بكل مشاعرها الندية ، لذا فنصها يدخل إلى القلب بغير أذن ، فالعنوان شاعرى فى الحلق بحر ميت ، لغة المفارقة ، للتعبير عما فى أعماقها ، ولكنها جعلت هذا الإحساس فى الحلق ، ليتماشى مع ” بحر ” للتعبير عن جريانه ،كما يجرى اللعاب فى الفم ، وجعلت البحر ميتاً ، تعبيراً عن رحيل هذا البحر ولم يعد منه سوى الذكريات …. نعم لم يعد سوى الذكريات لنبض مشاعر صوفيا بطلة هذه الرواية التى تعبر عن عاطفة المرأة وفى مرحلة تقدمها فى السن ، تظل نضرة المشاعر ، ملتهبة الوجدان ، فالرواية تعبر عن اللانهاية لالتهاب العاطفة  ، والحياة بالحب حتى آخر قطرة فى الحياة ، فالرواية تعبير عن مقولة أحدهم ” الحياة الحب ، والحب الحياة ” وهذا ما عبرت عنه ” صوفيا ” بطلة هذه الرواية ، ولوعى الكاتبة جعلت بطلتها تعيش الماضى ، وتظل تبتهل بقصة حبها مع زوجها ” يوسف ” فلم تعبر عن هذه العاطفة مع رجل فى سنها ،أو أصغر منها فى هذه الفترة الآنية التى تعيشها  ،فمعيشة البطلة تقتات على الماضى أكثر تأثيراً ووقعاً ….وتبريراً وإقناعاً فنياً … لتقدم السن ولظهور آثار الكبر على المرأة ، فيكون الحب فى هذا السن أكثر مياعة وابتذالاً … ولعلنا نجد فى إهداء الكاتبة – كما ذكرت – وضع  كل كلمة بحساب فنى فى موضعها ، تقول فى الإهداء ” هنا ….. لا أدرى كيف رسمته فى غفلة من عقلى ، ولا أجرؤ على كونه يراودنى ، ربما هذا الذى يحمل عرفاناً فى صدره ميتا مسبقا ، فلا يحملنى سوى الوفاء له بكتابتى بلا عهد مسبق بيننا ” (1)

فالكاتبة – فى ظنى – تتخذ من أحداث روايتها معادلأً موضوعياً لحياة أية امرأة (أعتقد أديبة ، تعيش للحب والجمال بنضرة مشاعرها ) المرأة التى تعيش الحب وتستشعر الجمال حتى آخر رمق فى حياتها ، وكان الماضى هو أجمل وأنسب مرفأ لذلك .

-2-

رواية فى الحلق بحر ميت  – كما ذكرنا – رواية شعرية ، ولا نقصد بالرواية الشعر اتصاف لغة الرواية بسمات الأسلوب الشعرى فقط ، من حيث التكثيف والإيحاء واستخدام المجاز …إلخ ، فهذا ملمح نراه فى كثير من الروايات الرومانسية والواقعية ، ولكن نقصد بالرواية الشعرية هى التى ” تقوم بسرد ذى طابع شعرى بالمعنى الواسع للشعرى …. فى اجتماع السرد والحكاية والشخصيات والأحداث والأفكار ( من السرد ) مع العواطف والأنساق الموسيقية أو التشكيلية ( من الشعر ) ” ( 2)

وميز سعيد يقطين الخطاب الروائى الشعرى فى التقنيات الآتية :-

  • الخطاب الروائى الذى يروى قصة متخيلة أو حقيقية ، وعلى طرائق اشتغال هذا الخطاب تشتغل السرديات ، أو السيموطيقا السردية.
  • الخطاب الشعرى الذى لا يروى قصة بل يقول شيئا.
  • الخطاب الشعرى الحكائى الذى يستعمل متخيل الرواية وطرائق سردية وشعرية ، وهذا النوع الثالث ما يخص عند سعيد يقطين – ونوافقه فى ذلك – الرواية الشعر ، التى حدد مقوماتها فى صيغة لا تختلف – كثيرا – عن رؤية فريال جبورى كالآتى :-
  • الخطاب المفكك بين قول شئ وبين محاولة القص ، مما يخلف اصطراع الشعرى والروائى .
  • يتنوع فى السرد استخدام الضمائر ( ضمير المتكلم وضمير السرد الغائب ) .
  • اللغة المشحونة بمسافات التوتر – كما يعبر كمال أبو ديب – والمنزاحة من اللغة الروائية المعتادة .
  • استخدام طريقة الشعر الجديد فى الكتابة ( البياض – النقاط – الفصل بالخطوط المماثلة ) .
  • انتفاء القصة المعهودة لا يعنى انتفاء الأحداث والشخصيات .
  • حرية الراوى فى الحكى والسرد ، كحرية الشاعر الذى يحطم عمود القصيدة، والروائى – هنا – يحطم عمود السرد .
  • لا منطق للزمن والاعتماد على الاسترجاع والتذكر .
  • حضور ذاتية الروائى من خلال قطعة السرد .

9 – صعوبة الإحالة على مرجع محدد. (3)

وهذه المقومات والركائز الفنية التى ذكرها هذان الناقدان يمكن إيجازها فى تلاحم السرد بالشعر ، والاعتماد على اللغة المشحونة بالمشاعر التى تقوم – كما يرى كوهين – على الانزياح ، باستخدام الألفاظ فى علاقات جديدة ، فتقيم صورا فنية ، مع مراعاة الوقع الموسيقى ، واستخدام الإيحاء والتكثيف وظلال المعانى ، كل هذا بدوره يعمل على تصميم تقنيات السرد  تتفق وهذا التهجين الفنى، فتفتقد الحدث بطريقته المعهودة ، ويعتمد الروائى على الاسترجاع والتذكر ، ويكسر منطقية الزمان والمكان ، كل ذلك فى توليفة متناغمة تخرج نصا روائيا مميزا نستشف الأحداث، ولكن لا نرى فيها التراتب والتسلسل ، نرى الشخصيات ، ولكن لا نستطيع أن نقبض على ملامحها، وسماتها المميزة  بصورة ملموسة (4).

فالرواية من حيث بنائها الفنى لا تخضع لمبدأ التسلسل المنطقى والإحكام في حلقات أحداثها ، ونمو الأحداث نموا منطقيا ،لتتشكل عقدة ، ثم يأتى الحل ،وهذه مقومات الرواية التقليدية التى تخضع للمنطق والسيمترية …..وقد استفادت الكاتبة في بنائها للزمن من تكنيك تيار الوعى ،خاصة فى المناجاة النفسية والتداعى الحر للمعانى، فالمناجاة النفسية تقوم على “تقديم المحتوى الذهنى والعمليات الذهنية للشخصية مباشرة إلى القارئ، بدون حضور المؤلف، ولكن مع افتراض وجود الجمهور افترضا صامتاً”(5) وهذه العمليات الذهنية تتواكب وتكنيك التداعى الحر للمعانى، وهو شكل من أشكال حركة تيار الوعى ، ويتوافر هذا المحتوى عن طريق شئ يوحى بشئ آخر،وموقف يستدعى موقفاً ، نجد ريماس ( مديرة البيت تروى عن سيدتها ” صوفيا ” فى نهاية حياتها ، بعد تقدم السن بها ، فلم يعد الشعر ولا البحر يؤثران فيها ” كنت أراها كل صباح ، امرأة محبة للحياة ، رائعة العينين ، كانت تدهشنى ذاكرتها التى لم تضعف بحكم السن ، جسدها الذى كانت تعتنى به ، كأنها تستعد لعرسها كالمحارب الذى لا ترهقه الرحلة بالذكريات ، لا يتعبه السفر مع الأيام  ، كانت تذهب لسريرها ، كغيمة تصفعها الرياح ، تأخذ بالاصفرار ، تمطر بلا صوت ،ألعن هذا العالم الردىء ،إن الحياة قاسية مع الذكريات ( الرواية ص 9 ) ….وقد يستمر الروى على لسان ريماس صفحات كما فى بداية الرواية ، حيث تستمر فى الروى قائلة ” كان الربيع ينبت خلسة فى قلب سيدتى ، النهار يقصر ، فيبدو وجهها ميدالية مستديرة لملكة فرعونية ،أغمضت عيون الليل قلبها ، مثل غيمة رخوة تطارد رياح الأعالى ، تتمزق وهى تتذكر ، كيف كانت تبحث عن السعادة وهى أقرب من خطوة ، واقفة بين يدى القدر … بدافع الفضيلة آلت إلى هذا المكان وحيدة ” ( الرواية ص10  )  بعدها ينتقل الروى على لسان صوفيا لتنتقل من اللحظة الآنية إلى الزمن الماضى عن طريق الاسترجاع والتذكر ، حين تذكرت بداية علاقتها بناجى :  فى قداس الأحد بدير العذراء أسير كفتاة راقية ،أشتم رائحة البخور ، كموج يتصاعد ببطء فى جسدى ،أتأمل القبة الخضراء من أعلاها إلى أسفلها ، زخارفها الذهبية كأنها شعرى ، العذراء شامخة تتدلى صورتها فوق صدرى ، لتبارك تلك الأيقونة الصغيرة ، جسدى النحيل ، تؤلمنى مشاهد الآلهة المصلوبين ، يتسرب النور إلى روحى ،و أنا أمر أمام الشمعدان البرونزى بضوئه الشاحب يراوغ عتمة نفسى أمام العذراء ….. عندما تجاوزت عتبة الكنيسة ..كان يلاحقنى بعينيه الصغيرتين … قلبى يطفح بالسعادة ، تأملت الأيقونة التى أنارت وجهه ، رأيته كأنه الأمير بولس …بد لى أننى أصعد نحو سماء صافية أكثر عذوبة ، رسمت إشارة الصليب ثلاثاً ، ابتعدت ، شعرت بموسيقى الصمت ، تعزف على أوتار النجوم ” ( الرواية ص 10 : 11) …. وبأسلوب شاعرى تروى صوفيا عن علاقة حبها مع ناجى  وتتبعه لها وسعادتها الداخلية ، لا فى لغة مستهلكة …. ولكن فى لغة شعرية نابضة … تستحوذ على مشاعر القارىء وتمتعه … وتجعله يزداد قربا من النص والتصاقا بالراوى …لنعرف قصة هذا الرجل وعلاقته  بها ..إسكندرانى المولد عاش فترة قصيرة فى اليونان ولكنه تطبع بطباع البلاد .. جدتى هيليا …كان تراقب الرسائل التى كان يلقيها تحت الباب ، متذكرة أيام شبابها وحبها الأول … وهنا يتغير الحكى بلسان صوفيا عن الجدة ( هيليا ) التى لا حظت عليها تطلعها لقصة حب جديدة فى حياتها  ، تشبه قصة حبها لناجى ، فى بداية قصة حبهما معا ” ….لتروى لنا ، عن التشابه بين هذا الموقف وموقف جدها حين تعشَّقها ، هذا الرجل الذى  غادر فلسطين حين فتح الأمريكان باب الهجرة .   ….وعندما منع من دخول روسيا لمرض فى عينيه غير مسار حياته إلى اليونان “…كنت كالنهار رائعة بوضوحى ، أرتدى القبعة والفستان المزهر ،أسير قلاب شجرة صفصاف ، جذعها كخميلة حوت العالم بين ظلها ( الرواية ص 13 )

ويتوالى السرد على لسان هيليا موجهة الحديث إلى صوفيا عن جدها  “…. كنت فى طريقى لسماع القداس فى الدير ، بدا لى شيطان جدك متمثلا أمامى فى صورة طفل يبكى ، يرجونى المساعدة بحق الصليب …( الرواية  . ص 13 )

عادت به إلى بيتها ، استضافته ثلاثة أسابيع  ،  وعندما أبلغته بأن يرحل للمدينة …. حزن ” صمت طويلا ،ثبتت عيناه السودوان ، يستعطف قلبى ، ابتعدت محاولة خلاص يدى منه ، عانقنى بقوة ….ثم ماذا حدث جدتى : تبا لك أيتها الصغيرة إن ما حدث لا يقال للفتيات الطاهرات مثلك ” ( الرواية ص 15 ) وهكذا كان زواجها من جدها ( زكريا ) ، ليتنهى حديثها بأنه إذا كان يحبك سيأتى إليك بباقات الورود ، وينتظرك أمام الكنيسة …إلخ .

هكذا تنوع الحكى وبضمائر متعددة ، وجدنا الحكى على لسان ثلاث شخصيات ، بعيداً عن الطريقة التقليدية فى الحكى ، ووجدنا تمازج الأزمنة وتداخلها ، وطزاجة النص ورقيه الأدبى ، ليمتع القارىء بتدفقه الأدبى الراقى .

-3-

فالأحداث لا تسير سيراً طردياً الرواية تروى لصوفيا فى مرحلة الشيخوخة ، تدير بيتها ريماس ، ويعمل معها بعض العاملين منهم حسن ، والسفرجى على إلخ ….لكن علاقتها بريماس ” هى حجر الزاوية ” بصفتها مدير للمنزل ، مثقفة  واعية ، ومن جنسها ، والرواية تروى بعد ذلك لمشاعر صوفيا الندية ،  وحياتها الطقوسية ، تعيش الماضى من أعماقها ، وتنفصل عن الحاضر ، ويكاد الماضى يتمثل فى علاقتها بيوسف ، التى تحكى لريماس عن لقائهما فى سويسرا ، حيث كان يحضر مؤتمراً للأدباء بصفته ” شاعراً ” ، وتوطد العلاقة بينهما ، وزواجهما ، ورجوعهما معاً إلى تونس ، واستقبال الأهل لهما ، وفرحتهم بهما ، الأب والأم ، وأختاه ( ضحى وآمال ) وإنجابها ” نائلة ” التى عاشت مع أهل يوسف فى تونس ، وجاءت لحضور جنازتها فى نهاية الرواية ، إضافة إلى سردها لزواجها من ناجى ، الذى تصفه بـ ” اللعين ” الذى عاش الحياة لجمع المال ، وفشل فى إقامة علاقة عاطفية متينة معه ،  بداية من زواجهما ، فمن أول يوم لم ينسجما معاً لافتقاده القدرة الجنسية ، ثم تحايله بعد ذلك لسرقة أموال جدتها ” هيليا ” التى تمنت أن تعيش فى الإسكندرية معها ، فباعت كل أملاكها هناك ، ما عدا البيت ، الذى دفن تحت شجرته الجد ، وهنا اتفق ناجى مع التاجر بأن يرسل ثمن هذه المبيعات ( باسمه ) وغادر البلاد بهذه النية ،  ولكن التاجر كان صديقاً للجد ، فأبلغ ” هيليا ” بذلك ، وقال له أعطنى مدة أسبوع ، وهنا حوَّل الأموال إلى سبائك ذهب ، احتفظت بها الجدة ، وذهب ولم يعد ، وبعدها كانت علاقتها بيوسف ( الشاعر ) الذى مات ، وتركها تعيش ذكرياته ، وتتغنى بشعره ، الذى أصبح ككتاب مقدس ، تستيقظ من نومها على تلاوة بعض أشعاره ، وهنا يكون السرد على لسان ريماس الذى يكاد يستقطب أكثر من نصف الرواية لسردها عن ” سيدتها صوفيا ” تقول ” كان يحلو لى أن أراقبها حين تنشد أبيات الشعر ، كأنها تراتيل باتت مباركة ، تمنح البيت صباحا ذهبيا ، بعد أن تنتهى من القراءة تسبح للحظات فى عذرية صافية ، كأنها ترى الصباح لأول مرة ” ( الرواية ص 22) بداية طقوسها اليومية ، بعدها تجهز لها الفطار نصف فطيرة دون دسم وكوبا من الشاى الأخضر ، وتفاحة كانت تضعها فترة على شفتيها ، وتبتسم خلسة ، ثم تضعها أمامى مشيرة لى أن أقوم بتقطيعها وهى تردد : إن اللذة لا تأتى مع طعم التفاحة بل من الفم الذى يتذوقها “( الرواية  ص 23) بعد تناول الإفطار تتركها للقراءة فى الديوان وهى تذهب لتنظيف حجرتها ” الهدايا التى تضعها أمامها على دولاب الفخار مبهرة راقية ، لا أستطيع لمسها ولو خلسة ، فهى ملكة محظور لمس مقنياتها “( الرواية  ص 24 ) ….وعندما تسألها ماذا فعلت بحجرتى ، تقول لها : لا شىء مليكتى صوفيا خيل إلى أن سيدى يوسف أبلغنى أن أقبل جبينك ، تنفرج أساريرها ، حين يذكر اسم يوسف ” وكانت تطلق عليه آخيليس( الرواية  ص 24) تيمنا بالبطل الإغريقى الذى كان بطلا فى حرب طروادة ….  

هذه هى الحياة الرتيبة الملولة التى تعيشها هذه المرأة العجوز …تعيش فى خضم الذكريات وتتعبد بحبيبها ” يوسف ” مما دفع بريماس أن تقول لها :

– سيدتى أنت رائعة ، وسيدى يوسف مثلك أيضا ، لابد أنكما لن يلعقهما الدهر  ص 43

هكذا يكون برنامجها اليوم  قراءة بعض أشعار من ديوان ” يوسف ” تناول طعام الإفطار ، الغداء، تتناول  بعد الغداء كوب الشاى الأحمر …وتجلس اتجاه الشرفة حتى المساء تجوب بخيالها البحر شرقا وغربا …وحين يجىء الليل تتكىء على ريماس وتجلس فى الصالة .وقد تعود إلى غرفتها …وتطلب كوب الحليب الدافىء ….تعيش الحياة من الداخل تقرأ فى ديوان شعر يوسف ، وتتأمل فى البحر من خلال غرفتها ، وما يستدعى من ذكريات فى روعها ، وتتأمل فى اللوحات المحيطة بها ، وما تختزنه من ذكريات …. رسوم عدة منها رسوم لمدينة الإسكندرية القديمة عندما كانت تضم بين ذراعيها جميع الأجناس من يونان وشام ويهود ورومان ….الخ .. أيقونة قبطية … صورة لسفينة التى حضرت بها لأول مرة إلى الإسكندرية ، مع زوجى الأول ناجى …إلخ .

الحياة الحب والحب الحياة ، هذا ما توحى به الرواية فى ثوب شفيف ، الجدة ” هيليا ” مع زكريا ، الذى وجدته منكفئا على قارعة الطريق …. فاستضافته ثلاثة أسابيع انتهت بتقبيلها وزواجها …. صوفيا مع يوسف وطقوس الحب التى تمارسها صوفيا مع ديوانه ، وريماس مع حسن ، حين تسرد الرواية لعلاقة حب ندية نقية بينهما ، رغم أنهما طيلة الوقت معا ، ولكن كان حبهما هامساً نقياً جميلاً ، لا غبرة تعكره ،  وتذهب بصفائه ونقائه ،  كلمات وابتسامات            …. والسلام …لتبرهن لنا الرواية بأن الحب يعيش فى سموه وقدسيته …. وأن الحب ليس قاصراً على زمن بعينه ، ولا شخصيات بعينها كما قالت صوفيا “إن من الحماقة أن نعترف بالحب الأول ، أو الحب من أول نظرة على أنه حب أبدى ، ربما يأتى الحب ونحن فى الشيخوخة ، أى وقت نجد فيه السلام الروحى ، والصدق فى المشاعر ” ص 37

وقد أجادت الكاتب فى تصوير نضارة هذه العاطفة ووضاءتها ، واستمرار تدفقها فى روع المرأة حتى آخر لحظة فى حياتها ، حتى أنه يخيل لنا أنها تمرُّ بفترة الهذيان العاطفى ، رغم تقدمها فى السن وموت زوجها منذ فترة ، نراها تُشْغف بذكرياته ، وبهداياه ، فقد كانت تطلب منها الشال الأحمر متذكرة أول هدية منه …. فى قراءتها لقصائده تندهش وكأنها تقرأها أول مرة ، تقول مخاطبة ريماس : –  ريماس الرائعة …أحبك اليوم كثيراً ، لقد وجدت بين دفتى ديوانه قصيدة لى …. ياه ، إنه يعيدنى لسنوات مضت ،أشعر بأنه قد اقترب ،أسمع أنفاسه وصوته ينادينى …إلخ .

-4-

كما ذكرنا أحداث الرواية ليست كثيرة ، حياة صوفيا التى تقدمت فى السن ، رغم جمودها واستمرارها على وتيرة واحدة ، ولكنها حياة نابضة جميلة بالحب ، من خلال الذكريات ، ومن خلال التذكر والاستدعاء كان السرد لعلاقة صوفيا بناجى ( اللعين كما تصفه صوفيا ) ولحياتها مع يوسف ، الذى كما تراه  صوفيا ” يوسف عظيم أمام نفسه ، دائما كان يرى الأشياء ، وكأنه يراها مملوءة بأسرار عميقة …” علاقتها بناجى تستدعى تذكر الجدة “هيليا ” لعلاقتها بزكريا ” … وخيانة ناجى ….جعلها تبحث عن رجل آخر ، وقد كان يوسف …وسريان الحب فى قلب ريماس كما لاحظت صوفيا …ذكرها بعلاقتها مع يوسف … بداية من لقائهما فى سويسرا …لذا قالت لريماس إذا تزوجتما ( هى وحسن ) سأضيفكما أسبوعاً فى سويسرا على نفقتى لأنها المكان الذى ولدت فيه قصة حبنا أنا ويوسف …فالبناء هنا يكون من خلال تداعى الصفات المشتركة، أو الصفات المتناقصة، على نحو كلى أو جزئى، حتى ولو كان الاشتراك بمحض الإيماء”(6) ويعتمد هذا التداعى – كما لاحظنا – على ثلاثة أشياء هى : الذاكرة والحواس والخيال(7) ورغم أن الفقرة الرابعة ( من ص 54 : 83 نهاية الرواية تروى لبداية علاقتها بيوسف وإنجابها لنائلة ، وموت يوسف ، ثم موت صوفيا ، وتكالب الخدم على سرقة المقتنيات وحسد الحاسدين على من تؤول إليه ثروة صوفيا ، وبحضور ابنتها نائلة من تونس …. رغم ذلك وجدنا للسرد وقعه الأكثر تأثيراً فى الفقرات الثلاثة الأولى ، حيث تداخلت الأزمنة والأحداث ، وعشنا فى انتظار وقوع الأحداث فى الرواية …

-5-

الشخصيات فى الرواية محدودة تُحْصى أربعة عشر شخصية  ( صوفيا ،  ريماس ، يوسف ،  هيليا ،ناجى ،حسن ، التاجر ، ماهر ، نائلة ، زكريا ، ضحى ، آمال ، أبو يوسف ، أم يوسف ، على السفرجى …إلخ )  فالشخصيات فى منظور النقد الحديث ينظر إليها من معيار كمى ، من حيث علاقتها بالشخصيات الأخرى  ، وبمدى تواجدها الفاعل فى النص الروائى ، لذا كانت شخصية صوفيا هى الشخصية التى لها وجودها الفاعل فى الرواية ، لاستحواذها على مساحة أكبر فى أحداثها ، ولعلاقتها الفاعلة بكل الشخصيات  ، علاقتها بريماس التى أحبتها كابنة ونصحتها بحب حسن والتقرب منه ، ومعيشة اللحظات النورانية الجميلة ن وكانت مرتبطة بها روحيا ، فهى المشرفة على كل شىء فى المنزل ، وهى التى تدخل حجرتها لتنظفها ، بل وتشترى ما يريده المنزل بدون اعتراض ،أو رفض من صوفيا ، علاقتها ( صوفيا ) بيوسف الذى ظلت طيلة الرواية تتغنى بحبه كممسوسة بالحب لا تستطيع مفارقته ، علاقتها بناجى زوج خائن للأمانة ،  بجدتها هيليا التى أحبتها وأعطته حكمة الحياة ، علاقته بنائلة ابنتها ، علاقتها بأهل زوجها يوسف ( الأب والأم وضحى وآمال ) علاقة حب واحترام  …. ويلى شخصية صوفيا فى التواجد شخصية ريماس الحاصلة على مؤهل عالى ،  ومديرة المنزل …تتصف بالتعقل والأدب وحسن تدبير الأمور… يلى هذه الشخصية شخصية حسن وهى حامل على مؤهل عالى ، ويتصف بالأدب والذوق الرفيع ، أما بقية العاملين فقد صورتهم فى صورة مزرية … حيث السرقة والنهب ، كما تضح فى آخر مشهد لعلى السفرجى وزوجته التى أخذت تسرق اللحوم من الثلاجة … إلخ …لا نجد صراعاً بين الشخصيات اللهم إلا دهاء ناجى فى الحصول على المال بطريقة غير مشروعة ، وانتهى الموقف بسرعة لاكتشاف التاجر الذى كان صديق الجد لهذه المؤامرة ، فطبيعة الرواية بنيت على تقديس العاطفة وقد كان ذلك كما أوضحنا من خلال ثلاث علاقات ( هيليا وزكريا ، صوفيا ويوسف ، و ريماس وحسن )

-6-

المكان فى الرواية تقنية و متعدد وشاعرى …فى جزيرة كريت ، الإسكندرية ، تونس ، سويسرا ، سيير …لذا لا تحفل بوصفه  أكثر من خدمته للنص الروائى …أحبت سويسرا  لأن بها كان اللقاء بالمحبوب … وأحبت الإسكندرية لموقعها الجغرافى على البحر ولأنها تستدعى فى ذاكرتها مكان الجدود فى جزيرة كريت ، ولا تصف الكاتبة جزيرة كريت بقدر ما توحى إلى الصفات الروحية عندهم ، حيث إنهم  يعتزون بأنفسهم ويمتازون بالدعابة والكرم ، والإسكندرية ” كانت تضم بين ذراعيها جميع الأجناس من يونان وشام ويهود ورومان ” ومما يُذكر للمكان تفجير قيمته فهو الأصل والملجأ لصاحبه ، لذا باعت هيليا كل أملاكها ما عدا ” البيت ” لأن به الشجرة التى دفن تحتها الجد ، و البيت رمز للتمسك بالوطن .. .. كما قالت هيليا حين فكرت أن أبيع جذورى و بيتى ، المال لا يشترى وطنا بالعالم ،إنها الغربة تظل تنهش بك ،إن الذهب قد يشترى لك بيتا فاخرا ، لن يشترى جذورا لهذه الأرض( الرواية  ص 40)

ورغم أن مسكنها فى الإسكندرية فى مكان محدد ، ولكن جعلت منه مكاناً  متسعاً ومفتوحاً ، عاشت فيه بروح المحبة التى تستشعر الجمال فيه ، فقرأت الشعر العاطفى الجميل ، وظلت تتأمل فى اللوحات والمقتنيات التى به ، ومن شرفتها كانت رحلتها البصرية إلى البحر وذكرياته وجماله المنعش ….

والزمن فى الرواية يتصف بالانسياب … ويتصف بالسيلولة لاعتماد الراوية هنا على التذكر ، لذا جمعت فى هذه الرواية القصيرة لكثير من أحداث حياتها ، خاصة العاطفية … فالأحداث التى تروى فى الرواية هى الأحداث ذات الوقع العاطفى ، علاقة صوفيا بيوسف ، ومن قبل علاقة هيليا بزكريا  ، وعلاقة ريماس بحسن …والرواية مقسمة إلى أربعة فقرات ، تكاد كل فقرة تدور حول حدث هام يخدم مقصدية الكاتب ( الحياة الحب والحب الحياة ) والرواية مقسكة إلى أربع فقرات : الفقرة الأولى  تدور حول بداية علاقة صوفيا بناجى ، وتذكر الجدة ( هيليا ) لبداية علاقتها بزكريا ، الفقرة الثانية تسرد لحدث خيانة ناجى لها بداية من زواجها منه ، حتى محاولته سرقة أموال الجدة ( هيليا ) بطريقة غير مشروعة لتؤكد على أن مع الحب لا يكون الغدر والخيانة وعبادة المال ، والفقرة الثالثة  تروى لخروجها لمطعم فى شارع طرح البحر وعلاقة الحب الذى بدأت بين ريماس وحسن ، والفقرة الرابعة تروى لبداية ونهاية حياة يوسف وزواجها وإنجابها وموتها … كل ذلك لا نجد تراتباً فى الأحداث وتسلسلا زمنياً ….  وبناء على ذلك وجدنا قطعاً  لأحداث نمثل قولها : تعاقب الأسود والأبيض على البيت برتابة …. ( تقصد الليل والنهار ) لبست الشمس رداءها دون استئذان …. مضت الأيام …لا أدرى كيف مضت !

-7-

لغة الرواية لغة شعرية تدفق فى انسيابية رقيقة جميلة ، لتعزف لنا أنشودة شعرية جميلة ، وكان بهذا النص الروائى نص شعرى فقد مساره الشعرى إلى مساره الروائى ، لذا فهذا النص يُقْرأ للاستمتاع به مرات ومرات دون ملل ، يتدفق السرد تدفقاً رقيقاً سلساً دون توقف ، أو تصدع …. وقد أجادت هذه اللغة سواء فى السرد ( بالحكى على لسان المتكلم ) كحكى ريماس عن نفسها :

” ها أنا أسير بالشارع بعالمى الخاص الطازج ، المفعم بالحيوية والنضارة ، بعيداً عن الماضى ،أسير اليوم ،و أعيش اليوم ،أتنفس اللحظة الآنية بوائها ونبضها …التصق بى حسن فى الشارع ، نظرت إليه بحدة ، اعتذر ، ابتعد قليلا ، مزهوة بنفسى ، بصدر غير الممسوس ، ولجين ضحكتى الهادئة ” ( الرواية ص 44 ) وفى وصف المشاهد ، منها وصف افتقاد ناجى رجولته ،  فلم يستطع فك عذريتها  ”  تدفق الدم فى جسده ، راح البحر يرسل نفحاته الملتهبة فى أوردتى ، اتقدت النشوة فى جسده ، تقلبنا على السرير كمن يراوغ حرارة الشمس فوق سفح الموج ، ولا يصل للبر ، شعرت بالملل حين لاحظت بعض الأمور التى بدت ،أخجل الحديث فيها ….الأمر متعلق بشىء بداخله ، يجعله يهرب لدقائق بعيداً ، ثم يعود كأنه يتحدى نفسه دون جدوى ” ( الرواية . ص 30) … وأجادت هذه اللغة فى الحوار وإن جاء قليلا فى صفحات الرواية ، نذكر منها حواراً بين ريماس وصوفيا :

– سيدتى أنت رائعة ، وسيدى يوسف مثلك أيضا ، لابد أنكما لن يلعقهما الدهر

– إن سيدك يوسف عظيم أمام نفسه ، دائما كان يرى الأشياء ، وكأنه يراها مملوءة بأسرار عميقة .

– إن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة ، فقد كان جديرا أن يرضع من ثدى الكبرياء والعظمة …. ( الرواية . ص 43)

وتتلاحق الجمل الشعرية فى صفحات الرواية ، هذه اللغة التى تقوم على لغة المجاز ، والتصوير ،  نذكر منها :

–  إن ذاكرتها كانت مثل موج البحر ، تقلب أعماقها ، وتخرج عجائب . ص 43

– كانت الشمس مثل سائل ناعم ينساب فى البيت ص 42

–  لقد بات الضجر من قصصك يصل لأنفى ،لولا محبتى لك ، هكذا تحدثت نفسى سرا ، ضممتها بقوة ،أطلقت القبل على رأسها ” ص 46

– لأول مرة يتسرب إحساس غريب إلى روحى ، هربت من نفسى …” ص 47

– ريماس ..إننى سعيدة بدخولك تلك المتاهة ، وبقضاء بعض الوقت فى عزله ،آه صغيرتى …تلك العزلة التى جمعت بينى وبين يوسف ص 55

– ريماس لا تكونى كالمهرة المتمردة ، ولا تصهلى بعيداً عن ضاحيتك ، لربما التفت حولك الذئاب ص 55

نص ” فى الحلق بحر ميت ” نص رائع جميل ، وفى ظنى أول مصادر هذا الجمال هذه اللغة الشعرية الممتعة ، التى تحلق فى فضاء الذهن ، فتمتع الحس والروح ، وتجذب القارىء نحو النص بصورة مدهشة ،إنها لغة الشعر ، اللغة التى تدخل القلب بدون أذن ، وتنعش الروح كريح باردة فى يوم قائظ ، هذا النص كما يطربنا ويمتعنا ،  ولذا نجد أنفسنا محتاجين كل فترة الرجوع لقراءته ،مما يدلل على أننا على نص ذى قيمة عالية .

هوامش ومراجع الدراسة

[1] – سمية الألفى : فى الحلق بحر ميت . ط. الهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم القناة وسيناء الثقافى – فرع ثقافة بورسعيد 2012 . ص 7… وسأدرج رقم الصفحة فى المتن لكثرة المقتبسات .

2 –  راجع نبيل سليمان : فتنة السرد والنقد ط دار الحوار للنشر والتوزيع سورية ط 1 عام 1994 ص 107

3 – راجع : المرجع نفسه ص . 109 .

4 – راجع للمؤلف : تطور التقنيات السردية في الرواية العربية المعاصرة ط دار التيسير عام 2008. ص 194 وما بعدها . وراح النقاد يتتبعون هذا النهج الروائى ( الشعرى ) فى الرواية العربية ، فقام سامى سويدان بدراسة هذا الملمح فى رواية الوجوه البيضاء لإلياس الخورى، وقامت فريال جبورى غزول بدراسة نماذج للرواية الشعر ، مثل رواية حدث أبو هريرة لمحمود المسعدى، والزمن الآخر لإدوار الخراط، وأبواب المدينة لإلياس خورى، ووقف على هذه الظاهرة سعيد يقطين عند الروائى الميلودى  شغموم ( فى روايته الأبلة والمنسية ) وعند أحمد المدينى ( فى رواية بدر زمانه ) وعند محمد عز الدين التازى ( فى رواية رحيل البحر ).ووقفت في دراستى على ثلاثية أحلام مستغانمى ( ذاكرة الجسد – فوضى الحواس – عابر سرير )

5 – روبرت همفرى : تيار الوعى فى الرواية الحديثة ـ ترجمة د. محمود الربيعى ط مكتبة الشباب د.ت ص 56.

6- م . نفسه ص 65.                       7- م . نفسه . ص . 63 .

اترك تعليقاً