مصطفي نصر
مصطفي نصر

الحــلم.. بقلم مصطفي نصر

أخرج سيجارته، أشعلها ثم قام ليأتي بشايه، وأوصى بشاي لنا جميعا.
كنا قد إنتهينا من تناول العشاء، وجلسنا – كعادتنا كل مساء – في مطعم الفندق الذي نقيم فيه طوال أيام المؤتمر. أرتاح أنا لمرافقته فهو خفيف الظل، يتحدث طوال الوقت حديثا تدعو للضحك، قلت بصوت مرتفع: إنني أحرص على أن أشاركه مائدته في الإفطار والغداء والعشاء. فقال صديق من مائدة قريبة: ما كل هذا الحب؟!
قلت: ليس حبا، وإنما مصلحة، فهو يأتي لنا بالكثير من الطعام. وضحكنا، فهو يقوم قبل أن يأتي العاملون بالمطعم بتقديم الطعام، ويعري الحلل، ويغرف الطعام لنا،

وعندما يحددون ثمرة برتقال أو يوسفي لكل منا، يسرع هو ويأتي بالمزيد لنا دون أن يلحظه أحد. وجاء الساقي ووزع الشاي علينا، ودارت الأحاديث التي يكون هو بطلها كل ليلة، يتحدث في أمور عديدة، عن جمال عبد الناصر وعن أنور السادات وعن محمد حسنين هيكل، ويعلو صوته ويتحدث بحماس، فيقول له صديق: وطي صوتك شوية، الناس بتبص علينا. نعرف إنه يشرب من زجاجة مبططة، يضعها في جيب جاكتته، ولا ندري متى يفعل هذا، فلم نره يفعلها ولا مرة واحدة. لكن تصرفاته تكشف لنا عن هذا. كان يتحدث مع صديق لنا، يحكي عن شخصية مهمة إتصلت بأسرته، لا أدري لماذا، قد يكون عن طريق المصاهرة، والد خطيب إبنته مثلا، المهم إنه حكى لنا بأن زوجته قالت في جلسة عائلية عن زوجها: إنه مؤلف، تنشر الصحف صورته أحيانا، وتنشر قصصه ومقالاته.

فقال ” الرجل المهم “: وتكسب كثيرا من هذه المهنة؟
فقالت زوجته في ضيق: إنه ينفق على هذه المهنة من جيبه، يصرف على طبع كتبه.و…..فقاطعها الرجل مندهشا: وإيه إللي يرميه على كده؟
قال هو بهدوء شديد وهو يتابع زوجته الغاضبة: هواية.
شرد الرجل كثيرا؛ حتى ظنه قد نسى الموضوع ويفكر في أشياء أخرى، لكنه فوجئ به يقول: ممكن الدولة تدفع لك مقابل ذلك؟
– قال: ممكن، في صورة مكافأة تفرغ.
سأله: كم في الشهر؟.

قال هو: حسب الواسطة. إللي واسطته كبيرة يأخذ ألف جنيها، واللي واسطته نصف نصف يأخذ 850 جنيها، واللي واسطته أقل يأخذ 650 جنيها. مط الرجل شفتيه، فهذه مبالغ لا قيمة لها عنده، فهو يلعب في الملايين، قال: دعنا من هذا، ما الذي يمكن أن تدفعه الدولة أيضا؟
قال: جوائز سنوية، تمنح للكتاب والفنانين. تبدأ بالتشجيعية، وتنتهي بجائزة النيل.
فسأله الرجل: ما الذي يناسبك فيها، التشجيعية؟
قال: لا، لقد كبرت عليها، الذي يناسبني جائزة التفوق.

مل الحاضرون الحديث في الأدب والجوائز، فإنصرفوا عنهما، وتحدثوا في أشياء أخرى أكثر لذة، لكن ” الرجل المهم ” كان متعاطفا مع زميلنا، ربما أحس بالشفقة نحوه، فكيف يعمل ويتعب ثم يدفع من جيبه؟!، لابد أن يتخذ ما له من معارف وإتصالات لكي يأتي له بجائزة تدر عليه مبلغا معقولا. فقال: أسبوع واحد، وسأتصل بك، سأبحث عمن يتصلون بوزير الثقافة.

يعرف زميلنا أن هذا ممكن حدوثه، خاصة في هذه الأيام التي تصير الأمور فيها بالواسطة والرشوة. وتحدث مع زوجته وإبنته عن ذلك. وأخذت إبنته تحكي عن قدرات هذا الرجل المهم، كيف أنقذ محكوم عليه بالمؤبد بإتصالاته الواسعة، وكيف ساعد قريب لزوجة إبنه على أن يكون وزيرا. وحصول والدها على جائزة مثل هذه لا تشكل مشكلة له بل هو عمل متواضع جدا بالنسبة لقدراته الخارقة. فأحس زميلنا بأن خلفة البنات لها فوائد كثيرة، فهو ليس في عائلته رجل مهم إلى هذه الدرجة، ولولا إبنته ما عرف رجلا بهذه الإتصالات الواسعة. ومر أسبوع وزميلنا قلق، فقد يكون الرجل قد نساه في غمرة مشاغله الكثيرة، كما أن موضوع الثقافة؛ موضوع سخيف وممل بالنسبة لرجال الأعمال. وكاد أن يتحدث مع إبنته لكي تحدث خطيبها وتسأله عما فعل والده في موضوع أبوها. وتوصل أخيرا إلى أن يتحدث مع زوجته، يستشيرها فيما يفعل.

لكن ” الرجل المهم ” إتصل به، وطلب مقابلته في مكتبه، فذهب إليه. مكاتب كثيرة، ومديرون وسكرتيرات كثيرات، وهو مالك هذا كله. جلس قلقا في مكتب مدير مكتبه الذي تحدث معه في جفاء، ظنه جاء طالبا واسطة لكي يشّغل إبنه أو إبنته، واضح أن الرجل لم يقل له عن صلة القرابة التي حدثت مؤخرا، ثم سمح له أخيرا بدخول المكتب الكبير، وقف الرجل مرحبا، وطلب له فنجان من القهوة، ثم مد له ” كرتا ” قائلا: تأخرت عليك، كنت مشغولا بأعباء كثيرة. تأخذ هذا “ الكرت “ وتذهب إلى الحاج عبده صاحب شركة السياحة المكتوب اسمها في هذا “ الكرت “. أراد أن يقول له: مالنا ومال السياحة؟! إننا نريد واسطة لوزير الثقافة.

وأكمل الرجل الذي أحس بما يدور في رأس صاحبنا: الحاج عبده يعمل في السياحة النهرية، يمتلك فنادق عائمة كثيرة، والوزير يعمل في نفس المجال.
– آه …
لم يزد عن هذه الـ( الآه ) فهو يعرف أن الوزير يمتلك فنادق عائمة. وقد تحدثت صحف المعارضة عن ذلك كثيرا. قال الرجل وزير الثقافة محدث في موضوع السياحة، لكن الحاج عبده يعمل في هذا المجال منذ زمن بعيد جدا، لذلك له أفضال كثيرة على سيادة الوزير. وضع صاحبنا الكارت في سترته، وأكمل احتساء فنجان القهوة مسرعا، وقام، مد يده وصافح صهره، وأسرع إلى الشارع. إندهش صاحبنا لأن الحاج عبده يذكر سيادة الوزير بإسمه الأول فقط، يتحدث عنه ببساطة، مما يدل على إنه قريب جدا منه، وله دلال عليه. وعندما شرح له زميلنا حكايته، قهقه الحاج عبده، قائلا: (…….) لا يتأخر عليّ خاصة أن الموضوع بسيط جدا، وقيمة الجائزة لا تستحق كل هذا الجهد .إطمئن، وبلغ صهرك، بأن يحط في بطنه بطيخة صيفي.
فالموضوع بسيط جدا بالنسبة لصهره الذي يلعب في الملايين، وبسيط للحاج عبده، وبسيط لسيادة الوزير، لكنه مهم جدا بالنسبة لزميلنا، فالأمر لا يتعلق بالقيمة المالية للجائزة التي لا تعجب صهره ولا الحاج عبده، المهم ما بعدها، فالإعلام سيتعامل معه على أنه حاصل على جائزة التفوق، والعاملون في مجال الثقافة ستتغير معاملتهم له . وظل صاحبنا يتحدث في ذلك الأمر مع أسرته، ومن وقت لآخر يتصل بصهره متعللا بأشياء بعيدة عن موضوع الجائزة، لعله يخبره بشيء حدثه فيه الحاج عبده، إلى أن اتصلت به سكرتيرة الحاج عبده، طالبة منه، أن يأتي في الغد لمقابلة مديرها. كان الحاج مبتسما كعادته، قال: لو أن مشاغلي كثيرة؛ إلا أني اهتممت بموضوعك، فأنتم معشر الكتاب لكم اهتمامات غريبة. المهم يا سيدي، لقد تحدثت مع ( …….)، وأخبرني بأن الأمر غاية في البساطة، لكن هناك منافس لك له أسهم مرتفعة. شعر زميلنا بالخوف، فهل هذا اعتذار لعدم تمكنه من إحضار الجائزة إليه ؟! لكن الرجل أكمل: لا تخف، سنبحث لهذا المنافس عن موضوع يبعده عن الجائزة.

فسأله: موضوع، كيف؟
قال:لا تهتم بهذه الأمور، يعني فضيحة ….. لا شأن لك بهذا، فسأتصرف.وسار زميلنا في طريقة إلى البيت، يفكر في ذلك المنافس، وأخذ يستعرض الأسماء، قد يكون فلان الفلاني، أو العلاني، هم يقيمون في القاهرة، وعلى صلة بكبار موظفي الثقافة، ويقابلونهم كل يوم تقريبا. وشعر بالقلق، فصهره هذا رجل أعمال ناجح، لكن هناك مئات في مستواه المالي، وعشرات أغني منه، وعلى صلة وثيقة بوزراء آخرين، وربما برئيس الوزراء نفسه. أحس زميلنا بأن الموضوع صعب وليس كما بسطه صهره. وأعلنت الجوائز، وحصل عليها منافسه الذي لم يستطع الحاج عبده أن يبعده عن الجائزة، فقد يكون له صلات برجال أكثر أهمية من الحاج عبده ومن صهره المهم. قلت لزميلنا: ما هذا الذي تحكيه؟
قال: أنت ما تعرفش حاجة. ده وزير الثقافة في كل لقاء، يراني أقترب منه؛ فيعطيني ظهره، حتى لا أحرجه وأحدثه في هذا الموضوع.