البنية الدرامية الشعرية عشرة طاولة دراسة تطبيقية د. نادر عبدالخالق


تعتمد القصيدة العامية المعاصرة على بنية تركيبية تستلهم فيها عناصر الدراما الفنية كظاهرة حداثية عامة تفتح الرؤية أمام التجربة لتستوعب عناصر التلقى كاملة، وتسمح للشاعر أن يقيم علاقة تبادلية مع الواقع والمتلقى كنوع من التجريب فى سياق النص وفى عملية التعبير المركب وحشد الصورة بالعديد من الدلالات الرمزية التمثيلية .
ويحاول الشاعر أن يتحرر قليلا من الإغراق فى تأثيرات الشعور والتأمل الفلسفى ليقترب من الواقع بمعالمه ومواقفه وحالاته وصراعاته بهدف التلاحم والاندماج فى الحياة لتحقيق التفاعل مع المتلقى الشبيه والنظير لهذه التفاعلات، خاصة الشاعر العامى الذى يملك القدرة على التواصل من خلال آليات متعددة مع المتلقى بدرجاته المختلفة، وليس ذلك لأنه المنوط وحده بالخطاب فى هذه العملية التعبيرية، ولكن لأنه يمثل الفكرة والموضوع الحقيقى ويسعى لإيجاد تجربة مركبة تمثل المتلقى والشاعر وعملية الصراع وإمكانية الوصول إلى الواقع الذى يمثله ويرمز له .
ولأن رسالة الفن إنسانية فى المقام الأول تشمل الحياة بكل عناصرها وتفاصيلها، ولأن الفن للجميع فيجب أن يكون التقريب أوضح وأعم فى وجدان المتلقى بشتى درجاته، وحتى تتحقق الشمولية فى توجيه العيون والأسماع والحواس بدرجات بصرية وصوتية وحسية تواكب فكرة التمثيل لجميع الطبقات بداية من الشعبى والعامى، لابد من وجود أمرين الأول : الجدل الناتج عن الفكرة والموضوع، الثانى : الإطار الفنى ” الشكل” الذى تتحقق فيه تلك العملية، فالجدل يشترك فيه الجميع لأنه عام يحقق عملية التواصل والانفعال للنص مع الحياة، ويمكن له أن يستلهم فنونا أخرى تحقق له التجريب والحداثة فى آن واحد، والشكل الفنى يحقق للشاعر رغبته فى التحرر والانطلاق نحو إثارة طاقته الإبداعية وتمثيل ذاته ومواقفه .
ولم يكن هذا التوافق النفسى الشعورى فى مرتبته الأولى والحسى التطبيقى فى درجته التالية متوافقا مع منطق التعبير الشعرى العامى، إلا بتحقيق البعد الجمالى والتشويقى للفن ذاته بصفته الجامع لكل هذه العناصر والوصول إلى الغنائية التى تترجم حالات الشاعر وتربط بين وجدانه وطبقات المتلقى فى آلية التعبير التى تجمع بين أحلامه ورؤيته فى نسق شعورى متحد .
والفنان الحقيقى هو الذى يثير فى نفسه دائما حالات الخروج عن التقاليد ويبحث فى أدواته عن إمكانية تطوير وتوظيف طاقاته الخلاقة بعيدا عن قدراته المعتادة التى يتشابه فيها مع الجميع، ويظل هكذا حتى تبدو له الفكرة الجديرة بالتعبير والشكل الفنى الذى يقبل هذه الفكرة، وعند ذلك تبدو جماليات النص وتبدو وحدته التى لايمكن الفصل فيها أبدا بين جسارة المضمون وفنية الشكل وفق دلالات التعبير ووفق حالات النفس الإنسانية فى سياق الإبداع والتمثيل الشعورى الوجدانى والحسى بكافة أنماطه .
وينعكس كل ذلك على بنية النص وإطاره ومصادره التى يستقى منها عناصره سواء كانت تمثل الاتجاه الداخلى للنص من خلال الزمن الحاضر أو تشير إلى الزمن الماضى والانفعال بالتراث من خلال الشخوص والوقائع والأحداث، مما يجعل البعد الدرامى عنصرا واضحا فى بناء النص، أو تمثل الاتجاه الخارجى الذى يمثل مصادر التعبير التى تتشكل منها الفكرة الموضوعية بصفتها المعيار الأساسى فى ترجمة طاقة الشاعر التى تتحول إلى انفعال حقيقى بالتجربة، وتحتوى مراحل البناء الدرامى فى العملية النصية، فى درجتها التطبيقية الأولى من الواقع والخيال معا، ويتجلى ذلك فى عدة عناصر :
أولا : فى شخصية الشاعر بصفته وحدة صراعية تنوب فى أحيان كثيرة عن المتلقى، وتكون واضحة فى تصوير المكان والبيئة والشخصية التى يستدعيها الشاعر عن طريق الرمز أو عن طريق الصورة النفسية والشعورية للحالة التى يعكسها كتيار وملمح موضوعى يقوم بتنميته فى إطار من التعبير والنقد الاجتماعى .
ثانيا : تبدو ظاهرة الصراع الدرامى فى النص العامى فى العلاقات التبادلية التى تنشأ من العلاقات الموضوعية غير المعلنة والتى يستشفها القارىء من خلال الضمائر واتجاهات الرمز فى التعبير وتلك رؤية يحاول الشاعر عدم التلميح بها حتى تظل مضمرة ينطلق منها ويعود إليها فى صور متعددة من التعبير والتشكيل داخل النص .
وهناك وجه درامى أخر يبدو فى النص وتتحق من خلاله بنية الدراما فى شكلها المتنامى المباشر وهو الوجه البنائى المعتمد على التشخيص الفنى فى صوره المعروفة، سواء كانت ظاهرة واضحة أو مقنعة تؤدى وظيفة تعبيرية بواسطة الصورة الفنية المركبة التى تعتمد فى أحيان كثيرة على الرمز واللغة المتحركة، وفيها يبدو الصراع والحدث حركة تعبيرية وشعورية تختلف بطبيعتها عن وظيفتها فى المسرح والرواية، فلا تكاد تُرى أو يشعر بها المتلقى لوجود الغنائية التى يعتمد عليها النص الشعبى العامى، وقدرته فى الانتقال باللغة والموسيقى والحركة الوجدانية إلى مراحل من التعبير تجعل من العناصر الدرامية خلفية نصية لاتطغى بأى حال من الأحوال على النص وصورته الموضوعية.
وهنا تلتقى الدراما بعناصرها الظاهرة والمضمرة وقدرتها فى الحركة والتدرج مع طبيعة النص الغنائى ورحلته فى البحث عن الموضوعية والإشكالية التعبيرية، التى يسعى الشاعر جاهدا فى معالجتها بطريق يعتمد التركيب الفنى والموضوعى ولايفتقر إلى البنية الغنائية بصفتها وسيلة الشاعر فى تحقيق الشاعرية والاتصال بالواقع من منطق الصورة والاعتماد على فنية الدراما، كوسائل مساعدة .
كل هذا يجعل القصيدة الغنائية العامية مرحلة من التجريب الذى لايقف عند تركيبة خاصة ويجعلها فى صراع مستمر تحاول فيه أن تتجاوز الشكل التقليدى الخارجى، وتسير فى اتجاه مغاير لواقعية النص ورحلته نحو البحث عن الجدل والاختلاف مع تيار التقليد الذى يفرضه الشكل العام للنص ويجعله أمرا واقعيا لايتجاوزه صاحبه إلا إذا خاض رحلة التطبيق عن طريق التجريب واستلهام العناصر التمثيلية الأخرى .
ومن ملامح التجريب لدى الشعراء أن تجد فى التجربة الشعرية عادة محاولات مستمرة فى الخروج عن تيار التقليد الذى تتبناه القصيدة فى مراحل بنائها، ويكون فى بدايته نوعا من التمرد والخروج عن المألوف والشائع، وتكون رحلة البحث متعلقة بعملية التطوير من داخل الجنس الأدبى شكلا ومتجهة نحو تمثيل دلالات جديدة على القصيدة والشاعر من ناحية الموضوع، من هنا كانت فكرة الدراما ومحاولة تطبيقها رمزيا وجوهريا فى بناء النص، والخروج به من الصراع الشعورى الوجدانى إلى صراع الحواس وتمثيل الواقع تمثيلا دراميا مع المحافظة على نسق القصيدة العام .
وعند قراءة التجربة الشعرية لدى الشاعر علاء عيسى فى رحلته التعبيرية التى بدأت بالإصدار الأول فى سنة 2000م، فى وقت قد تجاوز فيه المراحل الأولى للكتابة والتعبير، واتجه نحو التدوين بعد أن استقرت شاعريته وتحدد اتجاهها حتى وقتنا الحاضر، فى تواصل مستمر من التجويد والتجريب وتحقيق الحلم واستيعاب العديد من التجارب، والبحث عن المصادر التعبيرية فى الواقع الاجتماعى والسياسى على وجه التحديد والتى تمد القصيدة وبنائها بالأفكار والرؤى المغايرة لمراحل البداية .
واستغرقت رحلة التدوين والبحث عن مصادر التجربة ما يزيد عن عشرة دواوين من الشعر العامى ممثلة فى : 1- العزف على أوتار ممزقة صدر سنة2000 كبداية شعرية، تبعها مجموعات شعرية أخرى مثل :2- عفوا سقط العنوان سهوا”، 3- عشرة طاولة ” قصيدة طويلة،4- واحد واخد على خاطره ” قصيدة طويلة” ،5- خيانة “،6- وهذا إقرار منى بذلك” 7- ” إمرأة عير صالحة للإستعمال الآدمى ” قصيدة طويلة”، 8- ” محلك سر” قصيدة طويلة،9- الشعر اللى مابيصبش بيدوش،10 – وليا فيها مآرب أخرى “، وأعمال أخرى قيد الطبع، منها “طظيات وأبواب أخرى”، عمدة كفر اشمعنى ” مسرحية شعرية”، و” ثورة ومن أول السطر” .
والمتأمل فى بنية النسق العنوانى لجملة هذه الدواوين يلاحظ أمرين: الأول : عملية التشخيص التى قامت عليها هذه العناوين فى صورها ونسقها، وتستدعى هذه العملية تمثيلا فكريا ونفسيا تعتمد عليه الصورة، ويمكن ملاحظة هذه الصور الدالة على وجود التشخيص كبنية درامية تمثل عتبة نصية مستقلة مثل : ” واحد واخد على خاطره، و” إمرأة عير صالحة للإستعمال الآدمى، و” محلك سر”، وهى دلالات تشخيصية ظاهرة وليست مضمرة مما يؤكد أن عملية البحث عنها فى عناصر الصراع والحدث أمر حتمى، لما تحمله من دراما نصية تشير إلى جملة الأفكار التى تقوم عليها القصيدة فى داخل الديوان .
الأمر الثانى : الفكرة الموضوعية التى تمثل دلالات النص وقضيته والبحث عن الإنسان المعاصر فى رحلته التى تضامنت مع رحلة الشاعر فى دواوينه بداية من الصورة العنوانية الأولى، العزف على أوتار ممزقة، عفوا سقط العنوان سهوا، عشرة طاولة، وهذا إقرار منى بذلك .. وغيرها من الصور العنوانية الدالة، والملاحظ أنها صور تمثل مراحل التيه وفقدان الحرية التى يعانى منها الشاعر، متمثلا صورة الشخصية الشعبية ومعتقداتها وطريقتها فى البحث عن الطريق الصحيح، وهى دلالات مباشرة تشير إلى حضور الشاعر والواقع فى رحلة تتبادل فيها الأدوار .
ومنذ أن سعى الشاعر لتطوير بنية النص عن طريق الدراما نلاحظ أنه خرج عن المألوف لديه، وتجاوز مراحل عديدة من التعبير الذى كان يهتم فيها بشكل القصيدة ومساحة التشكيل، حيث بدأ بالشكل الشبيه بالمحلمة الشعبية من ناحية الطول واستغراق مساحات عديدة من الواقع والأماكن والبيئات وألزم نفسه تيارا معينا من التعبير كان وسيلته فيما بعد فى تطوير فكرة النص الدرامى .
وتبع ذلك انتقال من العموم النقدى الاجتماعى، إلى بناء موضوعى مختلف اعتمد فيه على الرمز والتكثيف وبناء التخييل المركب من الدلالة الشعبية والأمثال الدارجة والعامية فى شكلها المتميز لغة وتصويرا، والملاحظ أن هذه أن هذا التحول فى التجربة بدأ واضحا فى تركيبة القصيدة منذ المرحلة الأولى التى واكبت رحلة التدوين .
والمتابع لعملية الكتابة لدى الشاعر يلاحظ أن البحث عن الوجه الدرامى لم يستغرق منه وقتا طويلا حيث تجاوز مرحلته الأولى المتعلقة باهتمامه وولعه بشكل القصيدة، فتمرس وأتقن التشكيل والرمز فى لوحات تبدو قصيرة وتتضح فيها الدلالات بوعى مختلف قد نتفق معه فنيا فى أمور كثيرة وقد تدور حلقات من النقاش حول الفكرة الموضوعية ذاتها، كما رأينا فى قصائده الأخيرة وما يتعلق بها من تقسيم وإدراك لمفهوم الرمز بمعناه السياسى والاجتماعى، وقد نتج عن ذلك فى تجربة الشاعر تيار أخر يبدو جديدا على مرحلته الأخيرة التى تجاوزها أيضا سريعا وكأنه يبحث فى شغف عن التجديد والتجريب والتنويع والتعبير فى آفاق مغايرة تتعلق بالبنية الدرامية .
ويمكن مناقشة قصيدة ” عشرة طاولة خسرها علاء عيسى” والتى ضمها ديوانه ” وهذا إقرار منى بذلك”، لتحليل البناء الدرامى فى سياق النص يقول الشاعر فى مطلع القصيدة :
الدنيا دواير جوّه دواير من حواليك
والناس بتدوْر فى دواير دايره بتخنُق فيك
تزهق وتسيب البيت أو يمكن بيتك هوَّ اللى يْسيبك
تخرج علشان هوّ الزهقان من قرفك
فى هذا المقطع التصويرى الذى يؤدى وظيفتين : الأولى : الفضاء النصى الذى يتسع لحشد الدلالات والعناصر التى يمكن للنص أن يستدعيها لتؤكد فكرة النقد والتمييز فى دنيا الشاعر وفى الواقع الذى يحاكيه مسرحيا بواسطة رمزية ” الدنيا ” – ” دواير جوّه دواير” – ” من حواليك”، لبناء الواقع الداخلى للنص، وتحول الرؤية التعبيرية من الخارج إلى الداخل المباشر الذى يسمح بعرض الدلالات التمثيلية .
ورغم هذه الدلالة الكلية للفضاء إلا أن النص يتجه ناحية التحديد والتجزئة مستخلصا القضية فى رمزية الشخصية التى تتعين من خلال الضمائر فى الأسلوب ومن خلال كاف الخطاب، ويتأكد ذلك عند تتبع الصورة الأسلوبية التى تبدو متداخلة فى استعمال لفظة ” الدوائر” التى انفتحت على فضاء كلى ثم تحددت فى وظيفة أخرى وهى محاصرة الشخصية وسحقه .
من هنا فإن الفضاء النصى يبدو متسعا ثم يتلاشى هذا الاتساع ليناسب حالة الشخصية المتأزمة نفسيا ووجدانيا باستعمال لفظة الدنيا على عمومها مع لفظة الناس لتعميم الحصار والضيق .
الوظيفة الثانية : وتتعلق بالتمهيد وإعلان الاعتماد على فنية التشخيص كعنصر درامى أساسى فى تحقيق البنية الدرامية وبيان الحبكة التى ينطلق منها النص، حيث تعتمد الصورة الافتتاحية على شرح الأبعاد العامة للشخصية فى نمطها التعبيرى الذى يستدعيه الشاعر ” الدنيا – الناس” مقابل ” البيت” – ” الزهق” مما يفتح الرؤية على وجود أصوات أخرى وشخصيات استثنائية تمثل عدة أداور فاعلة ومفعول بها، أضف إلى ذلك وظائف درامية أخرى تتمثل فى الإثارة والاهتمام، وفى التوظيف المشهدى الذى ينوب عن المنظر المسرحى، وتهيئة المتلقى للدخول فى عالم النص محاطا ومحاصرا بفكرتين الأولى فكرة التمثيل الذهنى الذى يقوم على جدلية الخيال، الثانية : بحثه الدائم عن الشخصية مثار النص ومعاناة التجربة وهذا ما يطلق عليه البناء والتخطيط فى النص الدرامى الذى يتشكل من العناصر التمثيلية ويعتمد على الحبكة والوحدة الفنية .
ويستمر الشاعر فى رصد الصراع وتأكيد فكرة التشخيص التى تقوم عليها الفكرة كعنصر فنى فى مواجهة القضية التعبيرية التى تتمثل فى إشكاليات الواقع يقول الشاعر :
– بتحاول تمشى ورا رجليك
لَجْل ما تهرب منهم فيك
المعاناة هنا هى قضية الشاعر ومحط البحث والشخصية هى الأداة وهى محاولة للاقتراب من الشخصية وفك رموزها وشحن الفكرة بالعديد من الدلالات التى تنفتح على واقع أكثر انحسارا فى الضيق والهم النفسى والروحى ويستعين الشاعر بصورة أكثر شمولية لتأكيد النزعة ذاتها عن طريق الفضاء التشخيصى الأوسع رحابة يقول :
– الناس فى الشارع زىّ الناس فى البيت بالظبط
لاتنين عايزين شويّة ظبط وربط
مصر دى خنقة وابن الريف م الصعب علية يعيش
فى الزنقة
وفى هذه المحاولة الشعرية يحاول الشاعر إقامة علاقة موضوعية بين الشخصية الرئيسة وبين محيطها الخارجى لتعميم القضية والمعاناة لينطلق إلى الفضاء الأكثر رحابة والذى يحاول فيه أن يصنع تبادلا فى الأدوار بين ” الشخصية – والناس – ومصر” وكأنه يقيم علاقة نصية ودرامية تطرح العناصر المباشرة والرمزية فى البوح بما لايذكره النص، وبما لا يبوح به .
من هنا نستطيع القول بأن البناء الدرامى فى النص يبدأ بتنمية الفكرة النصية ويتحول تلقائيا نحو بناء العناصر معتمدا على مصادر شعرية خيالية تمتح من الواقع ومن ذاكرة الشاعر وتجربته وصراعه مع الذات والنفس، وهى تتشكل من الواقع الذى يمد النص والتجربة بالقضايا والأفكار، ومن الخيال الذى يقيم العلاقات الفنية والدرامية، ومن البناء التخطيطى الذى يعتمد عليه الشاعر فى معالجة الفكرة .
والشاعر يجعل من ضميرا صوتا موازيا يجلى القضية ويحاور نفسه بطريق المونولوج الداخلى ليطرح قضايا تتعلق بالذات الشاعرة وبواقعية النص وفكرته، وهو بذلك يتجه ناحية نفسية تتداعى معه العاطفة لتشكل تيارا من الصور النفسية والدرامية، لتنتج أصواتا جديدة تبدو مكررة لكنها تساعد فى تنمية الفكرة وتوجيه النص تصويريا ناحية أخرى تدفع الملل وتجعل من ذات الشاعر حلقة اجتماعية مغايرة لفكرة التعبير النفسى يقول الشاعر :
– منهم لله الناس فى الدار ووْلاد الكار
قالوا لى الشعر فْ مصر يأكل عيش فى كياس
ويلبِّس هِـدمه نضيفه وأحلى مداس
منهم لله … وْلاد الناس
– ييجوا يشوفوا الشاعر … عايش بالتسليف
الشاعر أكله وشربه شويِّة تصقيف
وإن زاد الجوع يضّطر يْحُطّ الجوع فى رغيف
شى لله يا مثقف إيش حال التثقيف .. ؟
ياااه إتنهد
شاطر بس تقول : الناس الأغنيا فقرا
وانت فقير المال ولكنك أغنى الناس
قصدك إيه ..؟ .. شعرك .. ؟
حبة كلمات مرميه ف قلب ديوان !
بتعوض نقصك بكلام ؟
وللا بالصورة الألوان ؟
قوللى يا شاعر
مين راح يقرا ديوانك .. غيرك
يمكن واحد صاحبك … يهديك إصداره القصصى
ويضطرك تقراه علشان يقراك
ميت مرة أقولك : حاول تمشى
الدنيا مش فردة جزمة ..!
لو طلعت واسعة ترجعها
حاول تحشى الجزمة بحاجه ..
حاول تمشى يمكن تلحق تعمل حاجه
هذا الانتقال التدريجى داخل النص يبدو وكأنه محورا ذاتيا عبر عن داخل الشاعر وكشف عن جانب من جوانب شخصيته التى تعانى وتلك سمة عامة عند كافة المبدعين، لكن الأمر الفنى يشير إلى وجود تكنيك أخر فى صورة المونولوج الداخلى، وهو عنصر مهم فى الدراما وفى تطوير الحدث وفى كشف ملابسات التجربة ودفع النص مراحل من التعبير تطرح أشخاصا وأفكارا مماثلة لذات الشاعر ولصفته الإبداعية، وتطرح الواقع بعيدا عن الحقيقة التى يراها النص من خلال رؤية الشاعر، ويضاف إلى ذلك حقيقة أخرى وهى عملية إثارة الشعور الداخلى الذى تتداعى عنده الأفكار المزاجية للشاعر وفيها ينفتح على نفسه دون مواربة فيكشف حقيقة معاناته وطبيعة تفكيره المنطقى الذى يعد كالبصمة النفسية التى لايمكن محوها أو طمسها بأى حال من الأحوال، وذلك لأن الدراما مرحلة من التعبير الانفعالى الذى يطلق عليه ” التراجيديا ” عندما يصل فيه الشعور العاطفى إلى ذروته وقمته فى التوتر وفى ترجمة الحياة من خلال تجربة الشاعر الآنية فإن كثير من الحقائق تبدو واضحة وجلية فى النص وهى لاتختلف عن الحقائق التى نواجهها كل يوم فى حياتنا يدل على ذلك أن الشاعر لم يجد أصواتا أخرى غير أصوات الحقيقة ليعبر بها عن معاناته وضيقه وضجره بالحياة والواقع فنراه يلجأ إلى شخصيات جاهزة ومستقرة فى الوجدان، ويلجأ كذلك إلى تقرير حالة يتفق فيها الجميع من خلال هذه الأصوات والشخوص يقول :
يااااه إتنهد
إياك فاكر بعد الشّرْحَ تاخُد نوبِلْ
” شوقى ضيف” ما تكرَّمش فْ بلدك
“شوقى” إتكرَّم من برَّه يعنى .. استنى
لمَّا الناس من بره تشوفك .. يا كسوفك
مبسوط بالست الأكبر منك بينها وبينك
راجل ميت على حبة أحاسيس مرميه
فاكراك لسه مشاعرك حيه
أه لوكانت تعرف إنك ميت من جواك
كانت تقفل بابها فْ وشك
زىّ البنت إيَّاها تمام لمَّا بترمى الشعر ف وشك
يااااه إتنهد
يمكن آهه تنزل منك تسحب روحك
تاخد أجلك تاخد قضبان القطر معاك
ولْحَدّ ما توصل أوِّل شارع “ناهيا”* “1”
إستنى .. بص هناك
نلاحظ هنا وجود شخصيات حقيقية تمثل أصواتا تتفق مع رؤية الشاعر من وجهة نظره، وشخصيات أخرى من صنعه، مما يضفى واقعية على طبيعة التعبير وإدارة المونولوج حيث يختلط الواقع بالخيال ممثلا فى وجود ” شوقى ضيف” مع ” صوت أخر يمثل الخيال فى رمزية ” البنت ” التى تتداعى رمزيته فى عدة أشكال منها ما يشر إلى الحياة ومنها ما يمكن إطلاقه على القصيدة نفسها، ومنها ما يمكن توجيهه ناحية عاطفة الشاعر، وأيا كان الأمر فإن وجود هذه الأصوات التى تنتشر فى جنبات الصورة، يفتح التأويل على صراعات عديدة لاتبعد عن توصيف الواقع الذى ينطلق منه الشاعر :
صاحبك بينادى عليك قاعد وسط الناس ع القهوه
ماسك زهر الدنيا ف إيده وْقاعد يلعب
وانت تبص عليه تستغرب
إزَّاى بسهوله بيرمى الزهر …
وْيرمى قشاط الطاوله بسرعة وانت ازاى بتعد بعينك
حاول تلعب صاحبك كل ما يرمى الزهر بيكسب
وانت تبص عليه تتحسر كل الناس حواليك كسبانه
وانت “الدُش” معاك بيخَّسر
إتنيل والعب صاحبك مبسوط ع الآخر
باسط كل الناس ع القهوة
باسط حتى الراجل صاحب القهوة
كل شويه يوصى ييجى لنا شاى على قهوة
وأنا جيبى مش حِمْل القهوة وما فهْش غير جنيهين
زائد ربع “جنيه” مخروم ماحنا ببقينا ف نص الشهر
هُمّا فى جيبى وكل فلوسى كان ممكن أرمى جواب التعيين ع الأرض
وافتح شركة كبيرة واعمل ثروة كبيرة واعين كل الناس بفلوسى
كنت ساعتها ممكن احزِّم كل بنات البار بفلوسى واتجوز أجمل بنت
لكن خفت البنت تكون عايزانى بس عشان تعيش بفلوسى
كان شرط علىَّ إنى أقول للراجل صاحب الشغل
إنى فى صباعك خاتم وإنه لوحده ف كفه
والكفه التانيه لكل العالم بسّ رفضت
وقبلت ابقى موظف دخلى بسيط وأعيش ويَّا الناس البسطا
بس فوجئت البنت الأجمل بنت
بترفض عيشتى بعد ما راحت كل فلوسى
والواد بياخدها ف إيده ونازل رقص
إتنيل والعب
صاحبك مبسوط ع الأخر ماسك زهر الطاوله ونازل قرص
صاحبك قرَّب ياكل قفِّل كل خانات الطاوله لصالحه
صاحبك فعلاً أخد الدور صحصح حبه صاحبك غلبك واحد مَرْس
صاحبك فرحان ومزقطط نغمة “سحرانى” ح تخرم ودنك
خَّد محموله ف إيده وإستأذن منك صاحبك قالك :
جهِّز نفسك ح أطلع بره ح رد عليها ثوانى راجع لك
تطلع عينك بره القهوة تبص لصاحبك عينك تلمح بنت بتسبق
نلاحظ فى هذا الجزء أن الشاعر ينطلق ناحية أخرى بعيدا عن الأصوات التى قدمها فى المونولوج الدرامى مقتربا من طبيعة المناجاة ومن تأكيد نزعته التعبيرية فى توظيف الأصوات والشخوص، وهو يحاول جاهدا أن يخرج من حالة الصمت التى كان يحاور نفسه فيها داخليا إلى المباشرة وتحويل النص إلى حوار علنى مسموع يصارع فيه الذات والحقيقة فيناقش أمور الحياة وهى يستعيض عن التصريح المباشر باستدعاء الضمير المركب فى “صاحبك” مما يجعل المحاورة بين ثلاثة ” الشاعر – والصاحب – والأخر ممثلا فى كاف الخطاب”، والإشارة المكانية هنا تسمح بوجود هذه الأصوات حيث ممارسة لعبة الطاولة، ووجود أصوات متداخلة فى بيئة المقهى التى تسمح بذلك، وهى بيئة واقعية تماما كان الشاعر موفقا إلى حد كبير فى رمزيتها التى تنوب عن المسرح والطاولة والأدوار التى تشير إليها تواكب هى الأخرى طبيعة النقاش وتحقق وجود الصراع فى حرص كل الأطراف على الفوز باللقاء، وهنا إشارة موفقة إلى الخروج بالمونولوج من طبيعته إلى الحوار ليناسب ارتفاع الصوت، ومناقشة قضايا الفقر والبطالة المقنعة .
ومن هذا الصراع فى مباراة عشرة طاولة قدم الحوار فكرة واقعية كانت تسير خطوة بخطوة مع مراحل اللعب فى كل مرحلة تطرح تساؤلا جديدا وإسقاطا اجتماعيا وفكريا، وقضية واقعية مما يجعلنا نقول أن عملية التعبير فى منطق الحوار وفى طبيعة الصراع النفسى والمادى المتعلق بمباراة ذهنية لايغادر اللاعب فيها مكانه ولاتستغرق وقتا طويلا حتى يعرف نتيجة مباراته ولعبه، واقتران ذلك بالحياة التى يعيش فيها الشاعر، قد حقق جدلا نفسيا وترجم أفكارا واقعية وصراعا وجوديا وجعل من اللعب وسيلة إسقاط فنية يمكنها تحقيق المعادلة الفنية التعبيرية التى تجمع بين طرافة الأداة وبين متعة التعبير وواقعية الحياة التى يقوم عليها النص الأدبى ممثلا فى الشعر العامى .
والشاعر يحاول نقل الصراع من عموميته إلى تحديد المركزية التمثيلية كدور جديد وصوت أخر يطرح وجودا شخصيا لطبيعة الصراع ممثلا فى
واد بيحاول يمسك إيدها
البنت بتشبه نفس البنت اياها
كان ممكن أعمل راجل يوم الليله اياها
وأنا شايف إيده بتسحب تمسك إيدها
كان لازم أقطع إيدها لمَّا عرفت انها
ساكتالُه
وهى محاولة أخرى وعودة جديدة لطبيعة المونولوج وتأكيد السلبية التى عليها شخصية الصراع لتحقيق البعد الدرامى النفسى المنهزم فى طبيعة النص والتى تدور فيه وحوله القضية، ويستمر الشاعر فى ذلك حتى نهاية النص، مع وجود إشارات تلمح إلى طبيعة المشهد السياسى والاجتماعى فى مصر وخارجها وطبيعة الحياة :
كان لازم واحد فينا يضحِّى
ويمثل دور النايم لجل التانى يعيش
أراجوز .. كان ممكن أبقى التانى وافوز
والمقطع السابق يشير إلى انتقال الصراع من ذاتية الشخصية العاطفية إلى الحس الدرامى الذى يعتمد على الحركة الحسية المباشرة فى قوله ” كان لازم أقطع إيدها ” وهى حركة انفعالية لكنها تمثل البعد المسرحى الدرامى فى الصورة، وهو انتقال إلى عموم التمثيل وتأكيد على فرضية العجز وتنمية لحركة النص والحوار وخروج إلى مرحلة أخرى من التعبير ومن التنويع الدرامى، وانتقال وإسقاط باللعب إلى الحقيقة الخارجية التى تقوم عليها الفكرة فى النص .
وفى منظر درامى أخر يشير الشاعر إلى المظهر السياسى الذى يغلف كل هذه الوقائع التمثيلية، ويجعل التراجع النفسى والوجدانى فى قمته وفى أشكال أكثر تأثيرا فى تكوين الدلالة التى يبنى عليها كل هذه المشاهد التمثيلية يقول الشاعر مستعرضا هذا المشهد الكاريكاتورى الحقيقى فى رمزية بالغة :
“عبد الله” و”بشار” فى الصورة
و”الريس” بينهم زى الأب . وسط ولاده
وقت الفرح ووقت الشده … بْيبقى ما بينهم
عايز يعمل حاجه لحد بس بشرط
إن الحَدْ ما يكونش يهودى
“الريس” زعلان ع الآخر
متضايق م الوضع الراهن
صوته بيوصل كل العالم
شايل هم الكون على وشه
“بوش” بين “عرفات” و”شارون”
ومرّكِّب وشِّين على وشُّه
والصورة هنا تجمع بين صراعين أحدهما نفسى والأخر سياسى لايقف عند حدود إسقاطية فقط وإنما يشير إلى حالة التلاشى العربى لفكرة الضمير والوحدة، الصراع الأول: هو صراع الشاعر وحسرته التى جعلته يصرح بفكرته وهى أوضح مراحل النص من وجهة نظر الدراما، الصراع الثانى وهو الناتج عن تباين الموقف واتحاد الرؤية لدى الشاعر ويتضح ذلك فى الصورتين المتناقضتين شكلا والمتفقتين مضمونا الصورة الأولى صورة عبدالله وبشار وبينهم الرئيس مبارك :
“عبد الله” و”بشار” فى الصورة
و”الريس” بينهم زى الأب . وسط ولاده
الصورة الثانية التى تجمع بين بوش وعرفات وشارون :
“بوش” بين “عرفات” و”شارون”
ومرّكِّب وشِّين على وشُّه
والملاحظ هنا هو موقف كل شخصية ومكانها فى الصورة ورمزية المشهد مهما كانت تتعلق بطبيعة الصراع العربى الإسرائيلى كما يبدو فى المشهد، نلاحظ اتفاق المكان بين ” بوش” والرئيس مبارك كلاهما يتوسط الصورة، ومقابلة موقف عرفات لعبدالله، وشارون لبشار، والحقيقة أن الموقف الدرامى لهذه الصور الجزئية فى تقسيمها إلى يشير إلى وجود صراع خفى يمكن استظهاره من سرد النص ومن طبيعة الخلفية العربية فى قيادة الأمور المتعلقة بالقضايا بين الشرق والغرب وبين العرب وإسرائيل وبين العرب والعرب، وأعتقد أن الشاعر كان موفا كثيرا فى سرد هذه اللمحات بطريق الصورة الدرامية، التى أغنت عن كثير من التصريح ومن المباشرة، والصورة هنا منقولة من المرئى المعلن بطريق العرض التليفزيونى، مما يجعلها ناقلة لحدث واقعى ولطبيعة سياسية يمكن تفسيرها فى نطاق النص على الشكل الذى ذكره الشاعر .
عايز يعمل حاجه لحد
شرْط يكون الحد يهودى
“أمريكا” بتلعب لعب كبير
والماتش مولَّع بين الاتنين
“مصر” بتكسب والماتش بيخلص
صفر – (2)*
واتنين م القدس بيرموا أرواحهم
جوّه ميدان ويموت (50) واحد
يصرخ إقلب لمّا الموجز يخلص
والتوصيف المشهدى للصورة هنا يعطى تفسيرا موازيا لتوضيح الصورة وشرح أبعادها على مستوى الواقع ويستدعى نماذج أخرى تقوم عليها فكرة النقد الاجتماعى فى أصوات تمثل كاريوكا وزوزو، وحالات الرمز التى تختبىء خلف واقعية الفن ومشروعيته ومراوغة الفكر وتراجع الحقائق، يقول الشاعر مؤكدا ذلك :
أيوه استنى “كاريوكا “بترقص
“زوزو” ويّا حبيب القلب
تسمع ضحك ولاد الكـ…ْ موقف صعب
السِّت خلاص مش حِمل الهَزْ
مَعادتشِ الفُرجه عليها تلذ
البنت بتقلع لجل تورى الناس الرقص
قلب الأم بيرجف وشفايف ناس ع القهوة بتنشف
بتحاول تبلع ريقها تشرب ساقع لجل تدارى مشاعر
تكسف
وهذا المشهد التصويرى الحركى الذى يعد أكثر المشاهد اعتمادا على حركية الصورة وانفعالها فى النص يعكس وجهين الأول : أن القصيدة الغنائية يمكنها أن تترجم حركية الدراما وتنقل أبعادها كاملة، وهى تتمثل هنا فى المشاهد الاستعراضية الغنائية التى تؤدى وظيفة إسقاطية تتآزر مع الصور السابقة، الثانى أن الحركة الناتجة عن انفعال الصورة هى نفس الحركة المسرحية التى يعتمد عليها إيقاع العرض المسرحى، ومن يتابع الصور اللاحقة فى النص يمكنه أن يقف على امتداد هذا التفاعل الإيجابى ممثلا فى بيئة العرض وفى مكان التمثيل النفسى، بالإضافة إلى المظهر الخارجى للمكان ممثلا فى ” المقهى” بحضوره اللافت وتأثيره المدهش فى بناء الحركة ومناسبته لعرض الفكرة من خلال عشرة طاولة، والأدوار التى يؤديها كل أطراف الصراع بما فيهم الشاعر ونائبه ممثلا فى الضمير والعناصر التمثيلية الأخرى يقول الشاعر :
صوت جوه القهوة بيصرخ ياخوانا
مات “الشيخ” وف نفس الشهر
ماحدش سمى عليه ولا حد قراله الفاتحه
صوت بيرد عليه ويقولله : إتنيل واسكت
اللقطه آهى خلصت
قلّب شوف الموجة التانية
يمكن تلقى مشاهد تانية
والمقهى ليس مكانا متجردا من التأثير والانفعال فهو مكان الحدث وبيئته المناسبة وهو الفضاء الذى يمكن أن تؤدى فيه مثل هذه الأدوار، حيث يسمح بتعدد الصوت، ويسمح بالتداخل، والتشويش، والاعتراض دونما سبب منطقى لأنه مكان متاح لجميع الرواد، من جميع الأطياف، وهذا ماجعل الأصوات فيه متعددة، تؤدى دور الجوقة أحيانا وتؤازر الشاعر حينا أخر، وتقوم بدور المشجع لصاحب النفوذ والقهر فى أحيان كثيرة .
ويستمر الشاعر فى عرض المشاهد الصراعية فى نفس المكان معتمدا على مصدر أحادى لكنه يسمح بتعدد المصادر نظرا لتعدد المعروض، ويسمح بتكرار الفكرة من خلال تكرار الصوت، كأن تقنية ” الفلاش باك” هى وسيلة الشاعر الغير معلنة هى التى تؤدى كل هذه الأدوار بواسطة جهاز العرض ” التليفزيون” وهذا يتوافق ضمنيا مع طبيعة النص ومع طريقة العرض، ومع منطق الدراما يقول الشاعر :
مشهد تانى لنفس البطلة فْ نفس الفيلم
خللى بالك من “زوزو” قبل ما رقصت
غنت … رقصت … غنت
قالت ع الدنيا ربيع صوت م القهوة بيسأل
وايش حال الآخرة يا “زوزو” ؟
صوت من بره القهوة بيدخل
يا خواننا حد يلمَّع ؟ ولا حد يرد
طب حد يلمَع بالتقسيط ؟ ولا حد يرد
الراجل شال صندوقه ف إيده …
وطالع بره
وهو مشهد أخر وصوت أخر يضم ماسح الأحذية وهو صوت خارجى يقوم بدور مركب من شأنه أن يجعل الحركة مستمرة فى العرض دون توقف، وهذا من سمات المسرح الجيد الذى لايسمح بخلو المسرح من الأشخاص، وفى نفس الوقت يؤدى وظيفة موضوعية تتطابق مع حالات العرض ومع فنية الدراما وهى عملية الإسقاط لواقع الناس التى لاتستطيع مسح الحذاء ولا بالتقسيط، مما يؤكد تضافر عناصر العرض فى بنية واحدة متماسكة فنيا واستعراضيا، بالإضافة لمواصلة مشهد الرقص والغناء الذى يضفى على النص اتحادا فى الرؤية والمضمون .
وينتقل الشاعر فى صورته الأخيرة إلى الصورة التى تمثل قضية النص وتشير إلى رمزيات عديدة من الأداء الفنى والدرامى، من ناحية الصراع وتطوره وبلوغه مرحلة موازية لمرحلة اللعب التى تنتهى بهزيمة الطرف المتصارع، وهى نهاية رمزية فى المقام الأول تفتح الرؤية على جدل واسع حيث تشير الهزيمة إلى أمرين الأول : اتفاق المضمون فى حالة اللعب وفى حالة الجد، الثانى بناء الصراع المركب الذى يجمع بين صورتين متقابلتين إحداهما حقيقية تمثلها قضايا النص ومظاهره المتعلقة بالحياة السياسية والاجتماعية، والأخرى خيالية تمثلها ” عشرة طاولة” بأصواتها وصخبها وشخوصها يقول الشاعر :
1- صاحبك جابه ف إيده وحط الجزمه
ف وشه صاحبك جاى مبسوط ع الأخر
راجع نافش ريشه جاى مش شايف حد قباله …
2- وْقاعد يلعب
البنت اياها بترمى الدبلة ف وشك
وادتهاله لازم يكسب كل ما يرمى الزهر
بتسيبه عنيك وتروح ع الجزمة
3- إتنيل والعب
صاحبك قفِّل كل خانات الطاوله لصالحه
كل قشاطه الأسود غطى قشاطك لابيض
صاحبك لابس طقم جديد
عمرك يوم ما ح تلبس زيه
راكب “عربية” عيونها كبيرة …
وْواسعة أوسع من عين البنت وهى بترمى فْ وشك شعرك
أكبر م الدنيا بتاعتك اللى انت بترمى فيها همومك
ويّا مشاعرك
4- صحصح حبه
صاحبك دخل ورقه وسابك
عايز لسه تهز فْ خشبك صاحبك قرب ياكل
سابك سارح منك فيك قال للراجل صاحب القهوة
كل حساب القهوة عليك صاحبك قام من جانبك
إنتهز الفرصة وغلبك ساب فى عيونك دمعة حسرة
صاحبك فعلاً أخّد العَشَرة
هذه الصورة تجمع أطراف الصراع فى فضاء عشرة طاولة وفى محيط المكان، وتشير إلى حركية النفس والشعور من خلال الألم، والملاحظ ان الحركة هنا تكاد تكون معدومة لتناسب نهاية العرض، وتواكب نهاية الحدث، وتتفق مع طبيعة النتيجة التى يصل لها الفعل الدرامى، ويلاحظ أن الصراع تحول من الحس إلى الشعور ومن الحركة إلى الانفعال الداخلى تاركا مساحة واسعة من التعبير الداخلى التى يبدو فيها الشكل متباعدا عن الفضاء التصويرى، لوجود الضمير الذى يمثل مضمون النص وصوره الحقيقية هى التى تؤدى الوظائف النهائية وذلك لتتفق الطبيعة الغنائية للنص الشعرى مع واقعية التعبير، وكأن الأصوات والشخوص والصراع والحوار والمونولوج مظاهر تمثيلية ووسائل فنية قامت بوظيفتها وانتهى دورها، تاركة النص لطبيعته التى يجب أن ينتهى عندها .
كذلك لايخفى وجود صورتين بدأ النص بتأكيدهما والاعتماد عليهما وهما صورة الصراع على ” البنت الحلوة ” ونهاية القصة الدرامية التى نشأت فى وجودها، وصورة عشرة طاولة التى تمثل مباراة حقيقية تستوعب المكان والبيئة والشخوص، وتساعد فى طرح الصراع والحاديث الجانبية، والنهاية عند هذه الدلالة تجعل من النص حركة مستمرة تبدا شعورية وتتحول إلى حسية وتنتهى شعورية .
هذه النهاية تثير تساؤلات عديدة أهمها ماهى طبيعة القصيدة الغنائية وسماتها..؟ وما الذى يميز القصيدة الدرامية عن غيرها ..؟؟ وأعتقد أن الإجابة على ذلك من خلال تجربة الشاعر علاء عيسى تفتح الباب أمام دراسات بعيدة عن التقليد، حين تنفتح نقديا على النص من خلال طبيعته الدرامية التى تعتمد على الصراع والحبكة والشخصية والحدث والحوار والمونولوج وبقية عناصر الدراما، وتفرق بين سمة النص الغنائية وطبيعته التى تميزه عن غيره من النصوص وتشير إلى عاطفة الشاعر ونبل مقصده ولغته وإيحاءاته وتعبيراته التى يتميز فيها عن غيره .

الدكتور نادرعبدالخالق
مساء الأثنين 17 ربيع أول 1437هـ
الموافق 28ديسمبر 2015م

الهوامش :
1- ديوان عشرة طاولة ” قصيدة طويلة ” 2001 دار الإسلام للطبع والنشر .

اترك تعليقاً