((أن يكون الشعر إنسانًا…قراءة في ديوان ” زغرودة الماء”)) للشاعر نور الدين طيبي

 

 

 

كتب إبراهيم موسى النحّاس:

 

     ينحاز الشاعر نور الدين طيبي في ديوانه ” زغرودة الماء” لكل ما هو إنساني باعتبار أن القيم الإنسانية هي روح الرؤية على مستوى المضمون والهدف والدلالة , كما التجريب هو روح الشعرية على مستوى التشكيل الفني لديه ولدى كثير من المبدعين الذين يرفضون أن تكون تجربتهم الشعرية نتاجًا مكررًا لتجارب سابقة عليهم, هذا الانحياز لما هو إنساني يتجلّى في الديوان بشكل ملفت للنظر بدءًا من الإهداء الذي جعله الشاعر (( للأب ثم الأم  ثم الإخوة ثم أفراد العائلة ثم الأصدقاء )) وربط أهم تلك الشخصيات بالدور العظيم البطولي صاحب التضحيات من أجل الوطن الجزائر و الحياة الكريمة له. وتوسيع دائرة الإهداء على هذا النحو يعتبر دلالة واضحة على الانحياز الإنساني الذي أشرت إليه, فيصل الحب – ليس عنده فقط بل عند كل شاعر في الوطن إلى حد الإدمان, إنّه حب الإنسانية في صورة الوطن الذي عبّر عنه في قصيدة ” فسيفساء الجسد ” ص 30 حين قال:

(( أحيانًا

يخرج من أزرقه

ليرى الشحرورة في عين القنّاص

أحيانًا

يلتصق الرمل برجليه

فتدمي القدمان

عمرًا يعشق

حتى يخنقه الإرنان

هو ذا الشاعر في وطني

يعشق حدَّ الإدمان

وطنًا لا تشبهه الأوطان

هو ذا الشاعر

يفتر حينًا

وتذوب على كفّيهِ الأحيان)).

      وقد ربط الشاعر بين الحب كقيمة إنسانية وبقاء الفرح الذي لن يموت طالما يعيش هذا الحب فيقول في قصيدة”حكمة الأشياء” في ص 50:

((ولأنّي سأبقى أحب

إلى آخر البحر

-أقصد عمر القصائد والناس-

لست أخاف على فرحي

أن يموتْ)). ونلاحظ معًا تمكن الشاعر من اللغة والتلاعب بها في هذا المقطع حين قال ” إلى آخر البحر” ولم يقل ” إلى آخر العمر” مثلاً وذلك لكسر أفق التوقع لدى القارئ ومن أجل خلق الدهشة الفنية القائمة على استخدام تراكيب لغوية جديدة غير مألوفة لدى القارئ العادي , وهذا ما يؤكد أن القصيدة الجديدة يكتبها الشاعر المثقف الذي يجيد امتلاك أدواته الفنية بل وتطويرها عن عمدية وقصد فني ليخرج بنسق غير مألوف يدهش القارئ فنيًا ويدفعه لطرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى إجابات عليها.

         ويأتي الحنين ممتزجًا بالشعور الإنساني بالحب كقيمة إنسانية في مفهومه المجرد العام الذي لا يقف فقط عند حد علاقة الرجل بالمرأة أو علاقة الإنسان بالوطن , ففي قصيدة قصيرة مكثفة دلاليًا حملت عنوان ” حنين” يرسم الشاعر صورة كلية لحوار بين الذات الشاعرة وآخر مُبهم – رُبّما للتعميم- حمل هذا الحوار مشاعر الحب والحنين من الذات الشاعرة تجاه الآخر حتى لو كان هناك اغتراب للجسد وحتى لو بدا الآخر رافضًا لهذا الحب وغير جدير به , في قصيدة استفادت من مختلف الأنواع الأدبية فأخذت من المسرحية لغة الحوار الدرامي , ومن القصة القصيرة لغة السرد القائم على التكثيف الدلالي, ومن الشعر روحه المؤثرة في النفس والتصوير الكلي للخيال في رسم مشهد بكل عناصره يمكن أن نتخيله وهو ينتهي بالمفارقة حين يقول في ص 25:

((قال لي : مرحبًا

ماءُ عينيَ مُستغرقٌ في النهار

وقلبي تؤجّجه لهفةٌ للعناق

جسدي سجَّرَته المنافي فتاقْ

قال لي : مرحبًا

ثم ألقَى يمين الطلاقْ)).

    لهذا ليس من المبالغة أن يخلع الشاعر على نفسه لقب” ملك العاشقين” في قصيدة ( هويّة 2 ) ص 28-29 حين يقول:

(( هيَ زهوُ السنابلِ

سُهْد المعارجِ

زهرُ المباهجِ 

قدسية العطرِ والقطرِ

أغنية سفحت رجعها للجنونْ,

بوابة العتقِ

صفصافة العشقِ

مبتدأ الكلماتِ, وخاتمة الصبواتِ 

سلسبيل اعترافك,

رجع الصدى

زنجبيل المواجد

كُنه المدى

صولجان اقترافك للحلم

قطر الندى

مهرجان اغترافك من فيضهِ

أنتَ يا ملك العاشقين)).

        وفي التعامل مع الخيال يميل الشاعر إلى الصور الجديدة المبتكرة مع توظيف الخيال الكلي فها هو الصمت يُرَى – على سبيل المثال – ص 34 حين يقول:

((الفضاء هنا

 مُوحشٌ

والمكان مُسجّى على  اللّا شيء

مَن لا يرى الصمتَ أعمى

ومَن ليس أعمى

سيفهمني)).

        من القراءة السابقة يمكننا القول إنّ الشاعر نور الدين طيبي في ديوانه ( زغرودة الماء ) ينحاز لكل ما هو إنساني , وينتصر للحب – في مفهومه المجرد العام – كقيمة إنسانية كبرى , في قصيدة تقوم على التجريب وترفض أن تقع في براثن التقليد الأعمي لتجارب سابقة عليها , حيث يوظف المقاطع القصيرة القائمة على التكثيف الدلالي والخيال الكلي والمفارقة مع التجديد في الصورة الشعرية الجزئية إضافة إلى الاستفادة من بعض السمات الفنية للأنواع الأدبية الأخرى , مؤكدًا أن القصيدة الحديثة تحمل دائمًا لواء الشاعر الإنسان المثقف المجدد.

اترك تعليقاً