“وفاء الزعتري” أنثى من نارٍ ..ونور قراءة :الشاعرة د. أحلام غانم

توطئة
إن الأسلوب القصصي من أسبق الأساليب الأدبية إلى استجلاء صور الحياة الاجتماعية ، ورصد تفصيلاتها المثيرة الحية بأسلوب فني يجذب اهتمام القارئ ويثير انتباهه.
فن السرد المكثف:
والقصة بوصفها فن السرد المكثف؛ لغة وحدثا وشخوصا، يحاصرها الزمن في ثنايا الفضاء الضيق/ الرحب، إنها بذلك أصعب فنون القول..لذلك يعد الأسلوب شكلاً من الأشكال المعمارية في بنية الحدث،والتي تؤكد معنى الوحدة المتسلسلة والتلاحم المنطقي بين تجربة الأديب وتعبيره .
وبذلك من خلال سرد واقعة معينة ، أو موقف ذاتي بنسج فني مثير ،يتابعها المتلقي بشغف ،وينساق وراءها حتى تتأزم الأحداث فيها فتقترب أحياناً إلى ذروة التعقد ، حينها يترصد المتلقي حلّها ونتيجتها.
” وفاء الزعتري ”
وأحياناً أخرى قد لا تتضمن القصة أية عقدة ، بل تصاغ دون أن تتشابك أحداثها صياغة تتيح للمتلقي الاندماج في جوها ومحيطها،والفضل في ذلك يعود لتجسيم المواقف ، وتصوير الآلام، وسرد الأحلام بشكل خواطر حسبما تجري في العقل الباطني وهذا ما رُصد عند الأديبة ” وفاء الزعتري “.
“أنثى من نارٍ ..ونور ”
أيُّ أنثى من نارٍ ..ونور تتحدث عنها “وفاء الزعتري”؟
“أنثى من نارٍ ..ونور “عتبة مدهشة، تستثير رغبة القراءة والتأويل، هي عنوان النصوص السردية للأديبة اللبنانية “وفاء الزعتري “الصادرة عن مؤسسة الرحاب الحديثة في بيروت –لبنان.
شدني عنوان المجموعة بما يبثه من إشعاعات دلالية تضمر الألم والعذاب، وتوحي بالإظهار والكشف والتعرية، صراع وجدل بين الظاهر والباطن/ المقول والمسكوت عنه، إنها خاصية في الفن ذاته، ذلك “.. إن القصة القصيرة لا تقول أبدا ما تريد أن تقوله، وكأنها فن لا يقول إلا من خلال مساحة الصمت والاخفاء…”
الصوت المشترك
ويمثل العنوان عتبة الولوج إلى “أنثى من نار ..ونور “وذلك اعتبارا لما تشكله العتبات من أهمية في فكّ شفرات النصوص فالعنوان ” قاعدة تواصلية تمكّن النص من الانفتاح على أبعاد دلالية تعني التركيب العام للنصوص السردية وأشكال كتابتها ،ويلخص ما يمكن ان نسميه النص الجمعي أو الصوت المشترك الذي تنطق به بقية النصوص.
دهشة الصورة
وتكمن جمالية هذا العنوان وشعريته في دهشة الصورة التي يقدّمها، والإحساس الصّادم الذي يبثه إلى القارئ بكل ما تحمله عبارة النار بما هو رمز للعقاب الأبدي، والألم منقطع النظير، والمدى المتسع البعيد عن التصور المتفلت حتى عن النور، العصيّ على التحديد، كيف استطاعت وفاء من خلال اللغة أن تحصر كل هذه الأهوال وتقسم الزمن رغم التقلبات والتحولات وتستحوذ على لب القلب وتلهب بواطن العقل وتحدها في شكل أنثى من نار ..ونور…وهي تلك المرأة الملعونة بالحبر ؟

العشق الإلهي
كيف لها أن تحمل هذه الملامح الأنثوية التي تجعل من اللاشيء شيئا، وهي طافحة بطاقات دلالية هائلة تتخذ من ثيمة الجسد مرتعا لاشتغالاتها، لا بالوصف المكاني المادي والتجسد الواقعي، بل بالعشق الإلهي الذي يتجاوز حيز الوجود وفي الوقت نفسه يرفض الانعتاق للعدم.. وهي المدركة أن الزمن لم يقبل قسمتها ،حيث تقول :”سأقتسمك بيني وبيني فهل تقبل القسمة ؟
“سنابلٍ موشاةٍ بالذهب”
تبدو “وفاء” كسنابلٍ موشاةٍ بالذهب ،تموج ك أنثى من نارٍ ..ونور وتسافر بنا غير بعيدةٍ عنا.. عن حياتنا وذواتنا، تستنطق الصامت منا، وتعري الجرح الوجودي ، وتتسلل إلى كل منا عبر عطرها المجبول برائحة الزعتر والريحان وبالحب تارة والاهمال تارة أخرى.
تقول بصوت الأم قولا قويا تهزّ به أركان الأرض والناس والأهل… تعلمنا هذه الأنثى في حكاياتها هذه أن شعرية القص ليست في ولوج عالم الخوارق والمستحيل.. ليست في نحت اللغة من بريق البلاغة وخرق المألوف… الشعرية في هذا النص يصنعها البسيط العادي، وهذه الأنثى يوحدها نبض واحد؛ فتنتقل لنا تلك الاحاسيس ونجد أنفسنا تسري بها تيارت التعاطف حينا والحزن حينا والغضب أحيانا أخرى، و نراها صبية تقف بخجل ،محمرة الخدين ،تهفو إلى نظرة منه ليطير قلبها ..فتصهرنا بنارها كي نرى معها “وجه الغريبة التي تركها هناك ، يطل من وجه ردينة وفاطمة وسهام .”
ويصرخ لسانها بالسؤال :” أيعقل أن يكون سبقته إلى هنا ، وصارت له كلهن بتفاصيلهن ..؟”ص-44
تفاحة آدم و طاقية الإخفاء
تنطلق “وفاء “في حكاياتها الوجودية من تفاحة آدم التي قسمت قلبها إلى نصفين، وحمّلت سفينة نوح مليون تعجب ومليون علامة استفهام و ارتدت طاقية الإخفاء ،وسارت عبر فوضى بوهيمية الخطى تبحث عن زمن لن يعود للخلف ولم يأت .
عالم من العشق والحب
تقول “وفاء” من خلال الصمت، تعري وتكشف الواقع المعكوس عبر تكثيف لغوي إيحائي ،وهي المؤمنة ان الانسان يؤلف وحدة كلية فالإنسان كائن عارف وحاس وفاعل في نفس الوقت ولا يجوز ان نتناوله من ناحية واحدة واعتبرت الكلمة ايضا وجودا وماهية ، فلا الكلمة تسبق النور ولا النار تسبق النور لذا تسرّبت إلى عيون الغرباء ،وانطلقت في سفينتها من الفلسفة الظاهراتية للكلمة ، مركزة على الارادة التي من خلالها تناولت الحلم بحنكة ورؤية في عالم من العشق والحب .
ألم تقع “وفاء” في تبرير المحو المتعمد للحقيقية والصمت المبرمج إزاء الأحداث السياسية الصاخبة؟
لماذا تخشى شروق الشمس ؟
في حضرة الفلسفة
حيث تعترف تحت قوس مريم..إنها هي.. :” تركتكِ هناك لوحةً جداريةً في زنزانتي الباردة ،كنتِ وسادتي وفراشي ودفئي ، حقيقةً لا أعرفك ..” ص-53
حري بنا أن نبين كيف تختزل الكاتبة في حضرة الفلسفة الكونية الحب بقبلة وكيف استطاعت إحياء الذكريات وممارسة فن التذكر بأسلوبها السهل الممتنع .. في صمتها رهبانية وصلاة الزاهدين لأنها المدركة في ثورتها فيضان البراكين ،لذلك بدت القادرة على النسيان ليس بالمعنى السلبي بل هي الذاكرة القادرة على الصفح والنسيان بالمعنى الايجابي الذي يؤدي الى التطهر والعلاج والتصالح مع الذات.
بوصلة التواضع
ويبدو إحساسها بالمكان حسا أصيلا انعكس في أغلب نصوصها ؛فعنايتها الدقيقة بتفاصيل المكان وقدرتها على التقاط ذبذباتها مكّنتها من جعل هذه الأجزاء المكانية توحي بالتاريخ المتخثر عبر العنوان والإهداء والتقديم المتواضع للدكتور الاديب رفعات راجي الزغول” وهكذا المبدع صياد رؤى والأديب العظيم بوصلته التواضع .
هالة سحرية
تدير رحى السرد بجمالية فنية وتعطر المكان بياسمين روحها وتستقبل حركة الزمن بقبلة وملمح الصدى يبدو وربما لتضفي هالة سحرية على شخصيتها وتحقيق حالة العجب نسمعها تقول: ” فوق التلال بقيتْ دهراً غافيةً في صندوق من زجاج ليأتي أمير الأحلام ويزيل عنها السحر بقبلة “. ص-26
والسؤال المهم هنا هل أن الذي حدث كان حلما أم حقيقة خلقت هذا الأثر في ذاكرتنا تلك الأنثى من نار ..ونور ؟
أسئلة كبرى تطرحها الكاتبة : ما الأنا ؟هل أصبحت على ما هي عليه نتيجة ظروف معينة ؟ما العلاقة بين فردية الفرد وهويته بوصفه فرداً في جماعة ؟ وإلى أي مدى تعد “الأنا” ،الفاعل ،عامل قوّة تقوم باختياراتها بدلاً من فرض الخيارات عليها ذكراً كانت أم أنثى ؟
الروح الصوفية
بلغةٍ متأثرةٍ بالحب والفناء والأديانِ السماويّةِ الطاغية، فتحلّقُ بصوفيّتِها عاليًا، لتزيدَها رونقًا وجَمالاً .لتوصلنا إلى جاك دريدا إليه صاحبُ نظريّة “التفكيكيّة”، أو بالأحرى القراءةِ “التّفكيكيّة” فيقول: لا شيءَ خارجَ النَّص..!
ولكنها ليست كذلك فقط ، بل تعد مشروعاً سردياً متطورا للتفكير لا ينتهي بانتهاء القراءة ،و يبقى السؤال الرئيس :أيعد السرد القصصي مصدراً للمعرفة أم للتضليل ) يقدم معرفة الكون /الحق والباطل ، النور والنار ،/الثواب والعقاب من خلال الفهم والإدراك )أم إنه تركيب بلاغي يُحَرّف بقدر ما يُكشَف ؟
التحدّي والسحر
خلاصة القول : نجد الأديبة وفاء الزعتري ،قد سلطت الضوء على التباين بين ما يقصده الناس وما يحدث بشكل حتمي . فوفرت لنا حكاياتها ،قبل كل شيء المتعة على طريقة أرسطو بتقديم تغيير جديد ومفاجئ للأوضاع المألوفة للسرد القصصي .. كي ننظر للقصة كأسلوب بلاغي يأخذ شكل أنثى من نار.. ونور ، تتسم بالتحدّي والسحر ..أم إنها أنثى يخضع فيها انخداعنا الأساسي إلى نور الحقيقة القاسي و التي تجعل المكان الغاماً و تجعله جزءا من تكوينها الوجودي .. أم أن عالقة الذات بالمكان الجنوبي المقاوم جعلتها ترى أنثى من نار.. ونور بهذا المنظار فنخرج منها شهيدا تلو شهيد ..ولكن أكثر حكمة وإيماناً بانتصار الحق على الباطل لأنهما من ذات واحدة .. جاعلة من نصوصها أنثى تحكي معاناة ذاتٍ لا تعرف لها قرارا ولذلك امتد بها الإحساس المتوقد شاعرية إلى ما لا حدود كنهاية مفتوحة على اللاانتهاء.
ممّا يُؤكّدُ المَقولةَ: بأنَّ الفنّانَ لا يَبتدعُ أسلوبَ حياتِهِ، بل يَعيشُ بالأسلوبِ الذي يُبدعُ فيهِ…؟
وبذلك تغدو أنثى من نارٍ ..ونور طرازا للتعبير الذي به تتحول الفوضى والعبثية والدعابة إلى منطق في حين يعجز التناسق والتطابق والإيقاع عن أن يكون له مثل ذلك وهذه هي المفارقة .بين أسلوب القص الكلاسيكي وأسلوب وفاء.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً