حكايات .. معوض حلمي .. الفلاح الفصيح
قراءة في ديوان .. ع الحصيرة
ــ
دائما أبحث عن استهلال يوافق الإضاءة النقدية التي سأدونها ، بعد مطالعة شاقة للعمل الأدبي الذي أنا بصدده ، حتى أمهد لمحتوى قراءة مختلفة عن قراءاتي لأعمال سبق الكتابة عنها .
ونرى أن الكتابة بصفة عامة هي مخاض معاناة إنسانية ، تحمل في طياتها ثمرات الفكر والوجدان والثقافة ، والكتابة النقدية بصفة خاصة ،هي معاناة الناقد التي تنشأ على معاناة صاحب العمل الأدبي .
ونقر أن الكتابة لا تحمل صفة المجانية ، بمعنى أنها لا تأتي من فراغ الذات ، أو قد تأني على سبيل اللهو ، الذي لا هدف له أو غاية .
ونؤكد أن الكتابة يجب أن تكون رسالة إنسانية غرضها الإصلاح وتقويم الأمور الغير سوية ، بعد تقييم شأنها .
وعلينا أن نتفق بأن الشعر موهبة حصرية لمن وهبه الله إياها .
ووجب عليّ أن انتقي من بين طرق متعددة ومتباينة للنقد الأدبي ، طريقة أعشقها ، وهي البسيط النسقي ، أو البساطة النسقية ، وهي التي تعرض الوصف البسيط للعبارة الشعرية ، وتحليلها تحليلا يساعد على حسن فهمها ، وشرحها شرحا يبسط معناها ، وبأسلوب اجتماعي ونفسي ، أصف أحداث النص دون أي تعقيد قد يبعده عن المعني المنشود للفكرة مرتكز العمل .
لقد اصطفى معوض حلمي لنفسه لقب الفلاح الفصيح ، ونحن نعرف قصة ” خن ـ أنوب ” الفلاح المصري الذي تعرض للاعتداء من حارس أرض أحد النبلاء ، من جراء تعثر حماره في أرض النبيل ، فاتهمه الحارس بإتلاف الزرع ، وأن حماره أكل من زرع النبيل ، فلم يسكت “خن ـ أنوب” وقدم شكواه إلى النبيل ، وبرغم عجز الفلاح أن يأتي بشهود كما طلبت العدالة ، أعجب النبيل بشجاعته وفصاحته في عرض شكواه ، وظل يتردد على العدالة مطالبا بحقه واسترداد حماره الذي سلب منه ، فلم ينصفه أحد ، الأمر الذي جعله يهين النبيل ، فعوقب بالضرب ، ورأى الفلاح في الرحيل حلا لمشكلته ، ولكن النبيل أرسل إليه يأمره بالعودة ، ولم يعاقبه مرة أخرى على الإهانة التي وجهها الفلاح إليه ، ورد إليه حماره وأنصفه إعجابا بشجاعته وفصاحته ، وعينه مشرفاً على أراضيه بدلا من المشرف الذي اعتدى عليه .
نحن لم نحشر هذه القصة داخل هذه الإضاءة النقدية عبثا أو للتسلية ، إنما رأينا واستشرفنا أن معوض حلمي أراد أن يقول ..” أن الساكت على حقه لا يستحقه” ، وأن الجرأة والشجاعة في طلب الحق مطلوبة من صاحب الحق .
ويمهد معوض حلمي لديوانه بعنوان ، قد أراه ويراه هو، أنه على مستوى موضوعات القصائد داخل الديوان ، ويلزم أن يفرش لحكاياته الحصيرة ، تلك الفراش أو البساط المحدد جوانبه والمضفر من عيدان البردي أو الخوص والنبات ، ويستخدم للجلوس عليه لتناول الغذاء والسمر واستماع الحكايات ، أو الكلام في أمور تخص ناس العائلة ، وأجد أن العلاقة بين الفلاح والحصيرة ، سيحدد لها الشاعر لهجة عامية بسيطة عميقة ، ستكون لغة التفاهم والتواصل مع المتلقي .
وقصائد الديوان تميل ، أو مالت إلى تداخل الشعر بالحكاية ، ولا يمكن الفصل بينهما ، والبناء جاء أيضا يؤطره الزمان والمكان في معظم نصوصه ، والشخصيات والأحداث والذكريات .
وراق لي في هذه الإضاءة أن اتخذ أحد الملامح الأهم في موضوعات الديوان، ورأيته الأهم ، والمرتبط ارتباطا وثيقا بذات الشاعر ، هو ملمح الفلاح وكينونته وإشراقاته واخفاقاته إن وجدت ، وتفاعلاته مع المجتمع المحيط به ، وعطاءه الشعري ، بما يحمل من أحاسيس ومشاعر لعالمه ، والأمنيات التي يتمناها لذاته ولذوات كل من يتواجد في زمنه .
كان الفارق في منتهى الوضوح بين الأصالة والمهانة ، الأصالة هنا في العودة إلى قدسية المنشأ ومفرداته الريفية العتيقة ، وترك هذا الأتيكيت الذي لا يتناسب مع الفلاح ابن الأرض الطيبة الذي ترتوي بعرقه .. ففي قصيدة ” لمت خيوط الشمس” .. كان الآخر الذي يليق بوجوده هو الغيط وناس بلده والبنت النواره “بهية”بخدودها الوردية ، وهي التي تعرف قيمته ، فهمست وضحكت ولمت له خيوط الشمس ، وغزلت له توب الحنية، ويظهر جمال الصورة طبيعة المكان ، وهي الفتاة الريفية التي ما بين أرض الرحيل وأرض العودة / قابلتني بهيه / قالت لي بعوده / يا ابو طله بهيه / بصيت لخدودها الورديه / وضحكت بهمس / لمت لي خيوط الشمس / وغزلت توب الحنيه . صورة مشرقة للبهاء والقبول والإنسجام والتناغم مع الفلاح والأرض .
وهذه العلاقة التي نشأت بين الفأس والفلاح ، علاقة غرام لا يمكن أن يُحل رباطها ، استطاع الشاعر أن يزاوج بين المادي والمعنوي ، وأن يطرح وطنيته ، وارتباطه بالوطن وبشاعريته ، وقدرته على التحمل والمثابرة ، وحسن استقبال الإلهام الشعري ، ذلك الطارق الزائر الذي يأتي ويذهب بدون سابق موعد ، فهو يسبق الكل كأنه على بساط الريح ، فيطرح في ذاته الثقة ، فلا هو اللص الذي يسرق مشاعر وأحاسيس غيره ، ولا هو المزيف الذي يزيف الحقائق ، ويجمّل الشين ، وإنما هو ورث الإحساس من والده ، واستشعر قيمة الفأس الذي خلق له ضمير قد يحاسبه لو غفل برهة عن الأرض، فيوثق هذه العلاقة الحميمية في صورة فنية وأسلوب تعبيري وصفي فيقول عن الفأس وعن نفسه : يبوس الأرض تطلع ماس / أنا فلاح وريحة أرضي عشقاني / وبتشكل في بنياني / وعرفاني أنا الطيب ، بداوي الجرح / وبطيب آهات الناس / وانا الباني بتحناني / في ناسي أساس / أنا فلاح ونبراسي / ضمير الفاس .. هذا هو الارتباط الوثيق بين الفلاح والأرض والناس .
إن أهم ما يشغل الشاعر عند كتابة قصيدته ، هو درجة تأثر مشاعره بالفكرة أو الرؤية وانعكاس ذلك على النص وتحقيق ما يهدف إليه ، وكيفية التعبير عنه وكيفية طرحه للمتلقي .
وتتوالي القصائد بعناوين متباينة ، أمر عليها سريعا ..” أنا الحاوي” : وبنفس البساطة التي يمارسها معوض حلمي في طرح قصائده ، يمارس البسيط في اللهجة ، مع بساطة الحاوي الذي يسعى لإسعاد الناس ، برغم ما تحمل نفسه من هموم .. ( برغم إن روحه ساكنها الموت / مدبوحه / مدفونه في ألف تابوت ، ولكنه نفسه يعيش كما الدراويش / أنام ع الخيش / واصاحب الحرافيش/ واللقمه تهنى وياهم/ بملحايه وكسرة عيش .. صورة فنية بسيطة تحمل مشاعر ذلك الإنسان البسيط الذي لا يتطلع إلى كنوز الدنيا ، ولكن يبحث عن راحة النفس.
وفي ” قبل الكلمة المعيوبه .. يعلن عن رفضه وعدم رضائه عن شعراء الهيصة والزيطة التي ملأت الفيس بوك ، لا تطرح غير كلام هدّام عديم القوافي ، يخاصم فكره المشهد ، ويخشى كما يخشى الأصلاء أن تتسيد الكلمة المعيوبة المشهد الأدبي.
وفي ” واحنا في ل ابتدائي ” .. فلاش باك على ذكريات الطفولة التي تترك أثرها في الذاكرة بكل ما فيها من جماليات وأحداث.
وفي ” يارب القدرة ” .. أخفى بطلة هذه القصة ، حتى انتهت دون إظهار الدلالة التي تكشف عنها ، من هي صاحبة ” الضحكه ، والنغزة سهام خلتني قتيل ، ولكن في قصائد أخري كانت واضحة ، فحل اللغز ..!!
وفي مضمار بحثي عن الفلاح الأصيل داخل عالم الديوان أجد ضالتي في قصيدته الطويلة ” ليل الغربه” ، و( قناوي) الذي يسرد ما قابله من شقاء وعناء في بلاد الغربة ، ومن أجل أن يحافظ على الأرض ، اضطر للسفر ، وأن يتحمل كل آلام الغربة ، لتحقيق وصية أبوه ، فالأرض عرضه وشرفه ، الذي يجب عليه ألا يتهاون في التفريط فيهما .. ويختم رسالته لأمه معبرا عن أصالته .. ” قناوي ع الدوام فاكرك / وإذا نساكي يعيش ازاي / قناوي ابنك ما هوش نسّاي ..!!
لقد عرض الشاعر معوض حلمي منتوجه الشعري معتمدا على الأسلوب التعبيري الوصفي ، ولم يلجأ إلى التعقيد سبيلا للوصول إلى الهدف أو الغاية التي تعلقت في ذهنه.
وفي مسيرة بحثنا لاستيفاء الملمح الذى عقدنا العزم على إيضاحه بشئ من الشرح والتفصيل والتعرف على العادات والتقاليد في قريته الريفية نجد قصيدة ” فلاح” .. فيستعرض وصف الفلاحة ببساطتها وجمالها وسحرها الطبيبعي وشطارتها وخفتها ، ودعمها لزوجها ، ورعايتها للبيت والعيال ، وصلتها بربها ، وصلاتها ، كل هذا في قصيدة واصفة للزوجة الفلاحة التي أشاد بها في كل أمور الحياة الأسرية والعائلية ، ودائما تأتي خاتمة القصيدة معبرة عن ضرورة شعرية يحب أن يعيش معه المتلقي .. ” ولو هتجوع وتلبس خيش / تقول مستوره وتخبي / تفيض من روحها وتعبي / حياه للعيله لجل تعيش / وتنفش ريش وتحمي البيت / وانا لفيت بلاد الناس / باكتب عنها بالإحساس / وما وفيت / وافتح قلبي وازرعها سجر فاكهه / واشيل م الورده أشواكها / واجيب لها قمر وناس / وما كفيت. شاركوني جمال الصورة وتنفش ريش وتحمي البيت ، كأنها حمامة تحتضن زغاليلها بأجنحتها نافشة ريشها لتدفئهم.
وقصائد أخرى في الديوان منسوجة على نفس النول الذي نسج عليه قصائده ، عن ” الصديق ، فاكره يا عمه ، لسه فاكراني ، ممكن ، الست مراتي ……..
وع الحصيرة ، وهي قصيدة الديوان ، وكأنه في حضرة أصحابه أو أقربائه ، يفترش لهم الحصيرة ، ويلقى على مسامعهم ذكريات والده التي تملأ المطارح ، والغلة التي تطرح سنبلات ، فيقوم أبوه بإيقاظ الناس ، ساعة الفجر ، ويحمل على كتفه الفأس ، وكل الناس تعرفه حتى الطير ، حتي ضحكته تزيده الوقار والعظمة ، وأجمل ما يربط الشاعر بوالده .. هو يقول ” أنا ابن ابويا ونبتته / فلاح هُمام / وباقيه فيّا محبته طارحه الهيام / وستى كات للحكمه دار / أبويا كان فيها النهار ..
كما تعلم من أبوه الالتزام …….. مجابش داره جنيه حرام .
إن العلاقة الحميمىة لجده وجدته ووالده ووالدته وكل عائلته ، وأقاربه ،علاقة تربطها المحبة والعطاء الإنساني ، ويحمل في ذاكرته عطاءات والده لكل من حوله .
ولعله يستكمل ما بدأه بـقصيدة “حضن عيله” ، وهذه المرة يستنكر فيها كل ما استحدث من سوالب في البلد ، ويصرح بالسؤال ( فين زمانك يا بهيه ) ، ويشجب هذه الفرقة ، التشتت وغياب عادات وتقاليد الريف التي تغيرت، وضياع ما بثته الجدة والجد من قيم المحبة.
وعناوين تتلاحق خلف بعضها ” ألبوم الصور ، ياه يام حلمي ، ياقلب الحور ، خنقنا الضي ، أمين ياسي السيد ، أمينه ، داين تدان ، مشاعر تتحس ، سيرة أبويا ، عكس الاتجاه ، هدمة كستور ، الكلمه رسول ، كلب غيطاني ، سجرة توت ، من بيتنا الكائن في بلدنا، غربه وأسئله ، التوهه غول “.
ابتعد الشاعر معوض حلمي عن الصعب العسير ، اختار لديوانه الأسلوب السهل الممتنع ، والذي لا يمكن تقليده ، لأن حكاياته حصرية تخصه فقط ، وهنا نجد تداخل الحكاية في الشعر ، فلا يمكن الفصل بينهما ، وأيضا تعتمد على الأحداث التي قد لا تتشابه بحذافيرها ، واعتمد عليها في البناء والزمان والمكان والشخصيات ، كما وضع في الكثير من قصائده الموروث ، وأحسن الوصف في سرد الذكريات ، ولم يغفل عن طرح الحكم والمواعظ والنصائح .
والسؤال الذي نختم به هذا التطواف السريع في بعض معالم الديوان وهو .. هل منحنا الشاعر معوض حلمي صورة للفلاح المصري الفصيح ..؟
ونجيب نعم ، فقد وفق في إظهار الفلاح الذي يحافظ على أرضه ، ومن أجلها سافر ليشقى ويتعب ، من أجل حمايتها ، فهي العرض والشرف لكل فلاح أصيل يحب لأهله ووطنه ، وقد استنكر كل السوالب االوافدة على مجتمعنا ، رافضا هذا الإتيكيت الذي يذهب بهيبة ابن الريف، ويجعله دمية في يد جميلة من جميلات الحضر، وقال ما يجب قوله في قصائدة من حق ، لن يخشى إلا الله.
وختاما .. برغم عدم اتساع رقعة الإضاءة المنتجة على قصائد الديوان ، لارتباطي بعدد من الصفحات ، لا تزيد عن العشرين ، فقد اخترت كما ذكرت من قبل ملمح الفلاح المصري ، وحنينه للأرض ، وعشقه لها ، والحفاظ عليها ، ومواجهة الصعاب من أجلها ، وذكرياته مع أجداده ، ووالده ووالدته ، وزوجته وعياله ، وأقاربه ، وأهل بلدته ، ليثبت أنه الحنون في مشاعره ، العنيد في مواجهته للمطالبة بحقه .
نبيل مصيلحي
في أول أغسطس 2024 م
قد يهمك أيضا