كتب إبراهيم موسى النحّاس:
يقول الفيلسوف الكبير ” أرسطوطاليس” في كتابه ( الأخلاق ) في المقالة التاسعة – ترجمة إسحق بن حنين ص 272 ضمن سلسلة كتب الذخائر بإصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة- : (( قد يتلو هذا القول في المحبة , فإنها فضيلة من فضائلنا, وهي من الأشياء المضطرَّة أي” الضرورية” في الحياة )) فكيف يعيش إنسان بدون وجود عاطفة حب منه لمن حوله , أو من الذين حوله تجاهه؟! لهذا ومن هذا المنطلق نرى الشاعر عزوز عقيل في ديوانه الجديد ” السنبلة ” يقدم لنا رؤية تقوم على الحُب بمفهومه العام الشامل للمرأة والوطن والكون والحياة ومعهم الشعر والإبداع , لأن هذا الحب هو القيمة الإنسانية التي لا تقوم سعادة في الحياة بدونه , كما إنَّه قيمة دينية ووطنية أيضًا مهما واجه الإنسان أو الشاعر في الحياة من متاعب أو اختلف الواقع عن النظرة المثالية من الشاعر للحياة فنجد حب الماضي الممتزج بحب الأهل والنوستالجيا والحنين لحياة ذلك الجد وصورته هو وزوجته كما رسم ملامحها في الديوان حيث يزرعون بالتعاون فيما بينهما الحُب وهو يغازل كأس الحليب وخبز الشعير حين يقول في ص 8-9:
(( كنتَ وَحدَكَ تعشقُ
أطيافَ سنبلةٍ
نسيتها المناجلُ
من وقتِ جدِّكَ
لكنَّما الريحُ ها داعبتها
ولَم تنحنِ
وظلَّتْ تعانق صفو السماءِ
لتخبرهم أنَّ جَدَّكَ
كان يغازل كأسَ الحليبِ
وخبزَ الشعيرِ
وتخبرهم أنَّ زوجته لم تكن
غيرَ حلمٍ وديعٍ
تعانق أحلام جدّكَ
كي تزرع الحبَّ فيه …تعلِّمه))
وإذا نظرنا لبعض القصائد الرومانسية في الديوان مثل قصيدة ( فاطمة – ليلى – عزوز – محكمة ….وغيرها ) سنجد التلازم القوي بين حُبَّين: حُب المرأة وحُب الشعر حتى وإن مرَّ الشاعر بلحظات من الصمت التي عبَّر الشاعر عنها في قصيدة ” صرخة الأرض” ص 79 حين قال:
(( أخاصم الشِعر أحيانًا فيدفعني
موج القوافي وأفكارٌ من الأدبِ
هذا نشيدي وشوق الشِعرِ من أمَدٍ
توغَّلا داخلي صمتًا بلا صَخَبِ
الله أكبر صار الحُبُّ مُعتقلًا
للعاشقين تلاقوا فيهِ بالطَرَبِ))
ومع حُب الأرض الذي عبَّرَتْ عنه القصيدة السابقة كان حب الوطن ” الجزائر” ذلك الوطن الذي يعيش فينا بقدر ما نعيش نحن فيه فيقول في قصيدة ” نشيد الجزائر” في ص 95:
(( أحب الجزائر فوقَ الجنون
وفوق اللزومِ وفوق التصوُّر فوق اليقين
هي الآنَ
حلمٌ جميلٌ
يراودني
في جميع القصائدِ والأغنياتِ القديمةِ
فأعلن أنِّي أحبُّ
شوارعها
وضيق الأزقَّةِ فيها
هي الآنَ
امرأةٌ تحتويني
وتفتح لي قلبها…..كي يحتويني ))
وعلى المستوى الفنيّ تتسم قصائد الشاعر عزوز عقيل داخل الديوان بالمحافظة على الأصالة فلا نجد مغامرات فنيَّة ما بعد حداثية أو رؤى تكسر التابوهات وتتمرد على القيم الموروثة اجتماعيًا ودينيًا بشكل يصنع قطيعة مع المتلقي – كما نرى أحيانًا عند البعض – وإن لم يخلُ الديوان من جماليات حداثية سأشير إليها.
فمن مظاهر الأصالة في الديوان الحفاظ على البنية الإيقاعية العروضية فتنوعت قصيدته بين القصيدة العمودية التي تلتزم وحدة الوزن والقافية مع قصيدة التفعيلة التي تلتزم بالتفعيلة العروضية دون الالتزام بتثبيت عددها وفي كل هذا كان استخدام الشاعر لبحور شعرية تتناسب بنيتها الإيقاعية مع رؤية الشاعر فكان استخدام بحر البسيط والكامل بكثرة لأن بنيتهما الإيقاعية الهادئة تتناسب مع قيمة الحُب التي أراد الشاعر التعبير عنها , كما نجد جانبًا جميلًا في القافية وسأخص بالحديث هنا قصيدة ” فاطمة ” حيث نجد الشاعر لم يكتفِ بتكرار حرف الرويّ” حرف الميم بعده تاء التأنيث ” في نهاية أبيات القصيدة بل جعل كلمة ” فاطمة” كأنها حرف الروي بحيث تنتهي كل أبيات القصيدة بكلمة ” فاطمة ” للتعبير عن مدى حبه لها.
من مظاهر الأصالة في الديوان أيضًا التأثُّر بشعراء سابقين مثلما نجد في قصيدة ” أم يوسف ” ص 64 والتي تُذكِّرنا في بنائها بنونية الشاعر الأندلسي الكبير ” ابن زيدون” صاحب الوزارتين وعاشق الأميرة ” ولاّدة بنت المستكفي” حين يقول عزوز عقيل:
(( يا أُمَّ يوسفَ هل غابت أغانينا
أم إنَّهُ الخوفُ من أحزان ماضينا
يا أُمَّ يوسفَ أنتِ الآنَ شامخةٌ
كالنخلة الآنَ في قلبي تُظلِّينا
أنتِ الشموخُ وأنتِ البحرُ فاكهة
أنتِ الرحيلُ إلى قلبِ المحبينا ))
كذلك من مظاهر الأصالة في الديوان التأثُّر بالمعجم القرآني على مستوى اللغة الشعرية وقد لاح هذا في أكثر من موضع فنجد على سبيل المثال قول الشاعر في قصيدة ” السنبلة ” في ص 23 : (( قال هذي عصاي سأرمي الظلام بها )) متأثرًا بقوله تعالى: (( قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى )) صدق العظيم وربط العصى بعملية الرمي يربطنا بقصة سيدنا موسى بأكملها كما وردت في القرآن الكريم . كما نجد قول الشاعر في ص 25: (( فمنها التي قضت نحبها ومنها التي تنتظر )) تأثُّر واضح بقوله تعالى في الآية رقم 23 من سورة الأحزاب (( من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلا)) .
كما تظهر في الديوان بعض السمات ( ما بعد الحداثية ) منها توظيف واحدة من عتبات النص الشعري التي تشارك المتن خلق الدلالة والرؤية داخل الديوان , تلك العتبة هي المفتتح , حيث قام الشاعر بتصدير مفتتح أنهاه بعبارة للشاعر عاشور فنِّي – موظفًا عتبة أخرى هي عتبة الهامش – ذلك المفتتح الذي يوحي بالحب والأمل في ص 7 حين قال:
(( سنأتي
كذا قالت الريح
نحملُ وهجَ المدينةِ
نحمل أسرار غربتنا
نحلم الآنَ ها قد بدأنا
” وأنتَ الذي منحتكَ المدينةُ تذكرةً ” ))
من السمات ( ما بعد الحداثية ) في الديوان أيضًا توظيف الطابع القصصي الذي يقوم على السرد وطابع الحكاية بل نجد توافر عنصر الشخصيات أيضًا لتتحول الصورة الشعرية مع هذا السرد القصصي من الصورة الجزئية التي تقوم على المجاز (( تشبيه أو استعارة أو كناية )) إلى صورة كليَّة تقوم على وصف مشهد متكامل بكل عناصره وتفاصيله ولعل القصيدة التي عنون بها الديوان خير شاهد على هذا الملمح ولنقرأ معًا ذلك المقطع منها في ص 17 حيث يقول الشاعر:
(( كُنَّا صغارًا وكان أبوك الوحيد
الذي يشتهي أن يعلمنا
يشتهي كل شيء
وكان أبوه يُدَلِلهُ
لا لشيء سوى حَلِّ لغزٍ
أمامَ شيوخِ القبيلةِ
كُنَّا جميعًا وشيخًا أتى قريةً
قيل عنه الكثير)).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان ” السنبلة ” للشاعر عزوز عقيل يقوم في رؤيته على السمو بعاطفة الحب باعتباره قيمة إنسانية رفيعة لا تتوقف عند حب الرجل للمرأة فقط بل يتجاوزها إلى حب الأرض والناس والوطن والحياة في قصيدة محافظة تجمع بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وتتأثر في معجمها الشعري بالقرآن الكريم مِمَّا يعكس الثقافة الدينية للشاعر إضافة إلى التجديد في إطار المحافظة على الشكل من خلال توظيف بعض السمات ( ما بعد الحداثية ) داخل الديوان منها توظيف الهامش والمفتتح ولغة القصة التي تقوم على السرد إضافة إلى الجمع بين الصورة الجزئية والكليَّة على مستوى الخيال.