الحداثة المزيفة والمعكوسة بقلم : شريف مصطفي مجلة تراث الإماراتية عدد 279 يناير 2023
الحداثة المزيفة والمعكوسة
الحداثة بمعناها البسيط تجديد القديم وإعادة النظر فيما هو قائم فعلياً وخاصة في المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية فالحداثة حراك فكري في المقام الأول ينتج عن هذا الحراك الفكري حراك مجتمعي وتطور ثقافي يعيد فرز الموروث الفكري والثقافي والهوياتي للمجتمع بما يتواءم مع التطور والتغير المصاحب لحركة الزمن المتدفقة. بعيداً عن التنظير للحداثة كمفهوم وآلية تغيير وتطوير للمجتمعات والثقافات، والحديث عن نشأتها مع عصر النهضة الأوربية، وعلاقاتها مع التحولات الفكرية والمجتمعية التي صاحبت هذا العصر، فإن الحداثة ليست ابنة العصر الحديث. الحداثة هي حتمية تاريخية ثقافية. منذ ظهور الإنسان العاقل على الأرض وبداية ثورة الوعي والإدراك والتاريخ يقص علينا الكثير من التحولات الحداثية التي عاشتها المجتمعات البشرية. فالثورة الزراعية هي نتاج حداثة إنسانية قامت منذ أكثر من 12 ألف عام، والديانات السماوية منها والأرضية هي حداثة ثارت ضد المجتمع في وقتها وأحدثت تحولات جذرية وأعادت تغيير الثقافة والهوية المعرفية للبشرية.
فالحداثة ليست وليدة العصر الحديث، بل هي حتمية لا يمكن مقاومة قوتها وقدرتها على التغيير والتحول وكل محاولات مقاومة الحداثة باءت تاريخاً بالفشل. التغيير إن لم يكن صدامياً وثورياً سيكون ناعماً وهادئاً ومن ثم التغيير سيحدث حتمياً. إن شكل الحضارة البشرية بمشهدها الحالي ما هو إلا نتاج تغيرات حداثية متتالية عبر تاريخ الإنسان على الأرض. تتكئ الحداثة على التطور المعرفي التراكمي للعلوم الإنسانية والفلسفية المصاحبة للتطور العلمي والتكنولوجي. تنتج عنها مظاهر مادية تتوغل في كل جوانب الحياة المختلفة كالتطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي الذي توغل في مفردات الحياة اليومية ويصاحب ذلك أيضاً تطور وتغير في المباني والبيوت والملابس. كما تنتج عنها مظاهر لامادية ثقافية وهوياتية وقيمية وتتغير الكثير من المفاهيم التي تؤطر للعلاقات الإنسانية بكافة صورها فردية كانت او جمعية، فيتغير المجتمع من حيث آلياته ومظاهر العلاقات التي تربط وحداته البنيوية ومفاهيمه الثقافية والتي تُكون هويته، فيصبح الموروث القيمي والثقافي عرضة للتطوير والتغيير بما يتماشى مع ضروريات ومعطيات الحقبة الزمنية التي نعيشها.
علاقة المجتمع مع الحداثة توزن على ميزان العلاقة بين الناتج المادي واللامادي وتبقى المعطيات المادية مجرد ظاهر خادع للحداثة وليست الحداثة نفسها، وهنا تكمن أزمتنا الثقافية مع الحداثة.
في ثقافة الشعوب العربية ذهب الغالبية العظمى منهم إلى الحداثة الظاهرية الزائفة فاندفع وراء تحديث المباني والطرق والسيارات ووسائل الاتصال والملابس وشواطئ البحر والتجمعات السكانية الطبقية. لكن ما زال يختبئ داخل موروث فكري متجمد، ويؤمن قطاع كبير منه أن التطور الحضاري هو العودة لمجدنا الحضاري القديم ولذلك حداثتنا لابد أن تكون بالارتداد للخلف بصورة عكسية والعودة إلى الأنماط التي صاحبت المرحلة الزمنية التي عاشت فيه الحضارة العربية والإسلامية زهوة سياسية وعلمية وثقافية ومن ثم تواجه محاولات الحداثة الحقيقية التي تحاول تفكيك ذلك الجمود الفكري والثقافي بمقاومة شديدة بل وعنيفة في بعض الأحيان من خلال مجموعة من التهم المعلبة التي يطلقها المتمترسون خلف النزعة اليقينية بأن حضارة القدماء هي أبدع ما كان من دون وعي أو إدراك بأن متغيرات الزمن تفرض اختلافاً جذرياً على كثير من المفاهيم السلوكية والقيمية المحركة للمجتمع في عصوره المختلفة.
على سبيل المثال مفاهيم العلاقات الإنسانية والأخلاقية التي حكمت التجمعات البشرية في عصر ما قبل الزراعة تختلف عنها في عصر ما بعد الزراعة وقيام القرى والمدن ثم ظهور الدول المركزية، وما كان مقبولاً في المجتمع قبل ألف سنة قد يصبح الآن مرفوضاً.
إن اخضاع الحداثة لمفاهيم خرافية لنصوص بشرية تاريخية على أساس أنها الأحكام المطلقة هو نوع من العبث. فلا يمكن أن نقيس آليات التجارة في الحضارة المصرية القديمة بما كانت عليه في العصر الأموي أو العباسي وبما هي عليه في العصر الحديث بتعقيدات العلاقات الاقتصادية الآنية فلم يوجد في حينها بنوك ولا بلوك تشين ولا سعر فوب ولا سلة عملات إلى آخره. فكيف أحكم بمفهوم ظني على علاقات معقدة عما كانت عليه؟! وقس على ذلك الكثير من الأمور والجوانب الحياتية والثقافية.
انتصار المناهضين للحداثة يتكئ على تغلغل الفكر الخرافي وسيطرته على المجتمع في مقاومة التغيير الحداثي الحقيقي، واستمرار هزيمة التفكير العلمي أمام الفكر الخرافي في الكثير من المعارك المجتمعية. يسهم في ذلك غياب دور الفلسفة كمنهج تفكير في التعليم في العديد من المجتمعات العربية. والمجتمعات التي تتضمن مناهجها الفلسفة هي لا تُعلم منهجية التفكير الفلسفي النقدي، ولكن تُعلم تاريخ الفلسفة. وهذا يسهم بصورة كبيرة في انهزام الفكر العلمي أمام الفكر الخرافي. فتظل رؤيتنا للحداثة رؤية سطحية ومعكوسة عما يجب أن تكون عليه حيث نتباهى بتكنولوجيا لم ننتجها فنمتلئ بزهو كاذب يصنعه الآخرون لمجرد أننا نمتلك المال فنشتريه، وأحياناً لا نمتلك المال فنستدين كي نزهو بامتلاكنا الزائف للتكنولوجيا.
متى نخرج من عباءة الحداثة المزيفة والمعكوسة ونبدأ في الانخراط في حداثة حقيقية تعيد بناء فكرنا ومعارفنا ومجتمعنا متكئين على ثقافتنا ومطورين لها ضمن الحراك الحتمي لمعطيات العصر الحديث.
الحداثة لا تعني قتل ثقافتنا وبناء ثقافة جديدة كما يرى فسطاط بعض أنصار الحداثة على النمط الغربي بصورة مطلقة ظانين أن نجاح الحداثة في الهدم لكل قيم وتراث المجتمع. الحداثة ليست تخلياً عن هويتنا كما يروج لذلك الفسطاط المقاوم فيُضيع الفُسطاطين المفهوم الحقيقي الذي ننادي به أن تكون ثقافتنا مشاركة في الإنتاج الحضاري للبشرية – في عصرنا الحالي مثلما كانت قديماً – بشقية المادي واللامادي وليست مجرد تابع مستهلك لمنتجاتها المادية فقط مع البقاء على ثقافتنا حبيسة قلاع الأمس فنفنى وننزلق إلى العدم.
الحداثة الحقيقية هي تطوير للثقافة ومواءمة بين معطيات العصر الحديث والمفاهيم الثقافية والسلوكية وديناميكيات العلاقات المجتمعية ووضعها في أطر متجددة، تتمتع بمرونة التدفق الحضاري المتسارع للإنسانية.. وتبقى الحداثة الحقيقية هي الطاقة التي نتحول بها من مستهليكن للحضارة إلى مساهمين حقيقيين فيها.
قد يهمك أيضا