جمالية السرد الصوفي عند الأديبة التونسية “بسمة البوعبيدي” قراءة : د/ أحلام غانم

قراءة د. أحلام غانم
في خضم الخوف الذي يحيا فيه الإنسان العربي، باحثا من خلاله عن منافذ جديدة تحرره من متلازمة العالم الافتراضي ،نرى إن الخوف يجمع ما بين البشر بحيث يتغلب على مسافة زمنية أو لغوية ما من المعنى و ينسى كل منهم ذاته في غمرة العنكبوت، أما في الأدب فنحن نرى أن الإنسان يعمل على مراوغة المعنى ، يدسُّ سمّ العصيان في عسل الكلمات وينكبّ على عمق أعماق وجوده لتكون الحكاية والقصة في أوطان العنكبوت، وبذلك يتوصل إلى “مواسم التأنيث “. وتأسيسا على هذا المكون، يمكننا أن نفهم هذا الانطلاق في العالم اللانهائي الممتد من المحسوسات إلى آخر الرياضات الروحية وأعسرها وهي السياحة في قلب الأرض، فكيف للأديبة ” بسمة البو عبيدي الوصول إلى منتهى المنتهى فيه وهو معها المقيم ؟ لم تغفل الكاتبة حدود القناعة بأن اللغة هي الهوية ،وهي نسيج الإنسان المعرفي وبصمته في الوجود . مما لاشك به ، أدركت هذا التحول اللغوي والاستلاب الحضاري والذاتي الذي أدى إلى تفتيت داخلي وتمزيق ذاتي يمارسه الإنسان على نفسه ، لأنه بعيد عن الشمولية الوجودية وإن «العالم الحديث الذي هجرته الفلسفة، والمجزأ إلى مئات التخصصات العلمية، تظل الرواية مرصدا أخيرا لنا يمكننا منه احتضان الحياة الإنسانية باعتبارها كلاً»1. إن الذات كما تتجلى في مجموعاتها الأربع ” الانحناء” ،”رائحة الخوف” ، “مواسم التأنيث”، “أوطان العنكبوت “موسومة بالتجريد والتفريد ،بالاستثناء والتحدي السافر للآخر الذي يبرز حاجزا أمام حركتها، ومسكونة بالإمعان في الشك، وهذا أمر ناتج عن الصبر والشعور بجدارة أنوثتها ، وانجذابها كفراشة نحو الضوء وفواتح الجمال وفوائح الجمال ، ولأن الضوء هنا صنو للعتمة ، فإنه يسبح في ملكوت المطلق، ويتجاوز حدود الزمان والمكان، متماهياً مع صيرورة التحولات التي يؤسسها في وهج الرغبات. لذا تطفح مأثورات الكاتبة الذوقية بالحكايات الدالة على فرط المحبِّين بتعابير وصور تحتفي أشد ما يكون الاحتفاء بالقدرة على الإشعاع في قبضة متلألئة يتراءى كأنها متمكنة في الدماغ و الفعل في عالم يحاصرها حصارا مريرا، وتتجرد من الجهات لنبصرها كنقطة بين نقطتين؛ إدراكا لأهمية الأصل والسرد الشعري وضرورة تبوئه “كأحسن صورة ،والصورة فيها الروح بالعلم والبيان والقدرة والبرهان ..” حيث تكون اللغة هي الوسيلة والجوهر ، و اشتغال العتبات يدفع بالعناوين إلى مناطق تشكل دلاليٍّ عُليا، في عصر تجرد فيه السلطة الإنسان من إرثه الروحي، وقيمه الجميلة. يبدو الأثر الروحي واضحاً في التجربة الروائية لبسمة البوعبيدي؛ فيندر أن يخلو أي عمل من أعمالها من هذا الأثر، ويشكّل التصوف بكل أحواله ومقاماته وظواهره مادة خام استثمرتها في أسلوبها السردي . واذا نحن وقفنا نتأمل النسيج الفكري ل “رائحة الخوف ” ألفينا امامنا الطبيعة الحوارية الداخلية التي تتحرك خلال الصورة في مجملها، فمنذ الفاتحة تطالعنا الطبيعة الدرامية للحوارية التي تكسب الموقف ابعادا درامية تنجح في اثارة فضول المتلقي، ويفصح عن هذه الظاهرة قولها :” اختلجت تحت الرذاذ المتساقط من السماء وسارعت فتكورت فوق مقعد المحطة تحتمي والصور تطاردها “.-ص9 لا شك ،السرد في العربية ظهر في أحضان الشعر منذ امرئ القيس ومَنْ جاء بعده من الشعراء، ففي معلَّقَته الشهيرة امتزج الشعر بالسرد امتزاجاً مدهشاً، والسؤال كيف دخل الشعر إلى سرد الاديبة البوعبيدي، وهل حافظت على حقيقته المعرفية التي ربطته بفن (الرواية) أم أنها تخلّت عن بعض خواصه ليكون صالحاً للحلول في الشعر؟ تبدو بسمة البوعبيدي القصَّاصة والروائية -كما تقدم نفسها للمتلقي لأول وهلة- أنينا ينبعث من أعماق الجريد وتلوح بعصا اغترابها عن هذا الفضاء المزروع بالألغام والتي تنذر بالانفجار في كل حين . وهي لذلك تؤسس فضاء مرتبطا بالسمو والطهارة ذا بعد صوفي، يتقدم قرينة دلالية على شطح الرؤيا، وانبثاقها من تسابيح الروح، وابتهالات القلب، يتوق للعودة إلى طفولته الحالمة الأولى، والانغراس في قلب الأسطورة، لذلك تتشكل مجموعاتها شذرات مفعمة بلآلئ الأنفاس المحترقة لهفةً ووجداً، في بصيرة الصدق، ليكن … أليست بسمة هي التي تتساءل :ما هي أصول الطريق الصوفي لتبدأ طريقها من البداية ؟ ص-41 كيف تكذب الشفاه الملتهبة وهي تعيد رسم تفاصيل الجسد..؟ أتكذب الأنامل المرتجفة شوقاً في طريقها إلى النبع ؟ص-75 وكأن بها تحمل كل الإجابات بين تلافيف عقلها ،و تستعيد تلك الصلة بين الإنسان وربه وتسير بنا برحلة دائرية رحلة البحث والزهد معاً وتتوقف مطولاً عند المسألة الفقهية ، وتدور ويدور الوجود حولها تلك الدورة التي كان يدور بها أقطاب الصوفيّة ألا وهي دورة الدراويش ولم تكف عن الدوران لأن الوجود هو بطلها الحقيقي لا الشخصية ، فقد تأثرت “البوعبيدي ” وتاهت بين الأقوال والردود وتاهت في شعاب التراث ، وتعايش الزمن الذي لا يعرف الحياد ، وإنما تعبث أصابعها في الوجود والأمكنة ، فتزرع الأسئلة حيثما حللت ، دون أن تفرق بين ملامح مكان أو إنسان . استعانت باللغة الصوفية باحثةً عن حكمة بين الكلمات ،فانسابت مع فطرتها لتزيدها عزلةً في زمن يبدو لها محملاً باليأس فتتوكأ على أقوال المتصوفين : ” التصوف هو أعمق التجارب الدينية وأكثرها انطلاقاً في العالم اللانهائي الممتد من عالم المحسوسات إلى فضاء الحضرة الإلهية “، التصوف ” اختراق المراحل الممتدة من الخلق إلى الحق “.ص-39 -40 و نتلمس في أدب البوعبيدي حيرةً وبحثاً عن الخلاص المتمثل في الحب والمعرفة والقيم، وهي لم تغيّب العقل في أعمالها، كما جعلت للتصوف دوراً في المجتمع، فهو الواقي له من الخواء الروحي. ولأن هذه المجموعات ممتلئة بالرؤيا، فإنها غارقة في حسية آسرة تتجلى في حركات متراوحة ما بين الشطح والمشي، والرائحة المتدرجة ما بين المتناقضين، لهذا تهب “مواسم التأنيث”جماليات وترتدّ الذاكرة باحثة عن ذاتها التي ارتسمت في أوطان العنكبوت هاربة من “الانحناء ” مما يتيح للمتلقي معايشة مشهدي الجمال والقبح ، فتنتقل من روعة زمن مضى إلى خوف وبؤس وقهر زمن حاضر يجثم بثقله على الروح ، وكأن مسافة الغياب هي مسافة الحضور بين هذين العنصرين، أو وطن ينهض بهما ممتزجين ومتكاملين معا. ما الوسائط التعبيرية التي وظفها لتحقيق ذلك؟ لقد تحكمت المرجعية الصوفية في البناء الجمالي والدلالي للكاتبة ، واشتغلت على مستندات تاريخية تراثية تنتمي إلى زمن سابق، فأغنت “البوعبيدي”البنية السردية وقامت بتكثيفها من خلال اللغة الفياضة والشاعرية للصوفية، كما حققت انسجام السرد ووحدته، والمعجم الصوفي حقق لمجموعاتها شعريتها حيث رقت اللغة وشفت، ثم هاهي تطل على شيخ الإشراق “شهاب الدين السهروردي وتغوص في أقواله كقوله في “حكمة الإشراق فيقول :”إخوان التجريد تشرق عليهم أنوار ، لها أصناف :” نور بارق يرد على أهل البدايات وينطوي كلمعة بارق لذيذ ،ويرد على غيرهم نور بارق أعظم منه وأشبه منه بالبرق ،إلا أنه هائل ،وربما يسمع معه صوت كصوت رعد أو دوي في الدماغ .”ص- 48 إن النص البوعبيدي ينطوي على عدة مضمرات دلالية حيث استوحت ، من خلال ما خبره الحلاج في طريقه من مشاق وصعاب، تجربة السالك وما يمر منه من أحوال ومقامات للوصول. وتصوف ابن عربي الإيجابي، لأنها تراهن على تحقيق قيم إنسانية عليا. وكذلك بما تعطيه من ثروة في الأشكال السردية تجعل أعمالها الروائية “سيرورة روائية مفتوحة، تنقِّح ذاتها، وتصقل علاقاتها، وتنوع مواضيعها”. ورائحة الخوف تميط اللثام عن علاقة المتصوف بمحيطه، فالمتصوف يشارك في الفعل، ويساهم في التغيير. و”الأديب الحقّ هو من يشهد بحضوره على أحداث التاريخ بحيث يخرجها من ماضويتها لينفخ فيها روح الحياة وليدلي بشهادة حضوره حولها، ويؤكد على استمرار نتائجها”-2 هناك ارتباط واضح بين طبيعة تكوين الشخصية الروائية عند الكاتبة ونظرتها إلى الشخصية الإنسانية السوية عموماً من حيث توازنها وتكامل قواها العقلية والشعورية والاجتماعية. ولقد أفادت في ذلك من قراءاتها الفلسفية والنفسية. وتستعيد عبر أدوات الحداثة الجديدة القوة الروحانية الكامنة في الذات الإنسانية، وتحاول التأكيد على أن هناك مسائل قد لا يتقبلها منطق الإدراك العقلي ولكنها ممكنة الحدوث، وتعد جزءً مهماً من الواقع الإنساني. ويتم ذلك من خلال عرض أحداث يصعب تقبلها ضمن سياقات الواقع المعاش، تؤدي إلى تقويض كل الافتراضات حول كل ما هو مألوف ويومي. و تقدم “مواسم التأنيث ” سرداً قد لا يمكن تفسيره ولكنه خصب بصورة غير اعتيادية، من خلال عرض العادي بطريقة غامضة، والمألوف بدهشة اللامألوف، وتضمين عوالم السحر والخيال والخرافة من أجل تعزيز القوة الإيجابية في الشخصية الروائية وتعاليها على أزمتها الذاتية ومحبطات واقعها المادي ويضعنا هذا المقطع في صلب الواقع المر:” كان جعفر قد بات يخطط للتظاهر ضد كل هذا .ز كانت بداخله حمم الرفض تكاد تنفجر ..رفض اجتاحه فجأة كمارد كسر قمقمه الذي ضاق عنه ،كوحش كاسر أفلت من حبسه الذي طال به ..خطَّ قصاصات دسّها في حذر بأيدي البعض من صحبه ..سرت بعدها همسات بين شبان البلدة .”ص-99 خلاصة القول : عرفت “ناتالي ساروت ” الرواية بأنها:”عملية بحث دائم يسعى إلى تعرية واقع مجهول وأن اكتمالها وكمالها مرهونان ببحثها المستمر ،إنها مغامرة ومجازفة.” ،و”صدق أبو حيان التوحيدي في قوله إن الكلام على الكلام صعب”، فالأدب بشكل عام إثراء للحياة، وما ينبع من تجربة الوعي الجمالي هو إثراء للرواية، والتراث أحد أوجه الجمال الإبداعي في رصيد الإنسانية. ولذلك التجربة الصوفية والتجربة الأدبية كلتاهما تلتقيان عند المنبع؛ وهو الروح والوجدان والشعور، وعند أداة التعبير؛ وهي اللغة الرامزة. أما الغايات فقد تتفق وقد تختلف. ومن هنا كان عنصر الوصف هو وحده القادر على استثمار “مواسم التأنيث “وتحريك رائحة الخوف الثابتة والمتحولة وبعث الروح والحركة اللامرئية في “أوطان العنكبوت”.وهو ما نقف عليه ونحن نتتبع سير حركة السرد كيف ننخرط في فعل المشاهدة الذهنية متناسين تماما أن العالم المتحرك أمام أعيننا بطريقة عجائبية هو نفس العالم الذي صادفنا في عتبات الغيبوبة أو التشظي، العالم الافتراضي المتخيل. والذي لا يوجد بالفعل إلا في خطاب بسمة البوعبيدي. وهذه التأثيثات كلها تنتمي لفضاءات “يوتوبية ـ”لأنها “تخلق عالما موازيا للعالم الواقعي، وترى في تجربة الغياب واللامتناهي مرادها الذي تجد فيه ذاتها.” لكن كيف وفقت “بسمة البوعبيدي” في تحيين هذه الظهورات بشخوصها وصورها وجعلها تعبر عن الحاضر المتأزم؟ ـــــــــــ 1- – ميلان كونديرا، الستارة، ترجمة: معن عاقل، وردة للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2006، ص 72. 2- عبد الإله بن عرفة وآخرون: جمالية السرد في الرواية العرفانية، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الاولى، 2014م، ص 15

اترك تعليقاً