البؤرة الثقافية المكانية والتحول السلوكي في(الريح تترك فوق الطاولة) علوان السلمان


النص السردي..عقد توافقي بين منتج(مبدع) ومستهلك(قاريء) يتحقق عبر فعالية لغوية غايتها الاقناع والتأثير بوساطة تقنيات وآليات خطابية تمتد امتداد جغرافية النص وجسده البنيوي الذي هو اشعاع دلالي يقتنص من الشعر ايجازه وانزياحاته وايحاءاته ومن الدراما طرائقها في تصعيد وتيرة الحدث..بتسجيل اللحظة الحالمة وتعميق الاحساس بالوجود لتحقيق المتعة الفنية والجمالية من جهة ومن جهة اخرى نبش الخزانة الفكرية للمتلقي واستحضارها لاستنطاق المشاهد النصية التي تمتلك القدرة التوصيلية من اجل محاورتها وكاتبها..
وباقتحام عوالم المجموعة القصصية(الريح تترك فوق الطاولة) التي تنتمي لمهندس عوالمها الفكرية حسن البحار..واسهمت دار الجواهري في نشرها وانتشارها/2016..وهي تتناول موضوعتين مركزيتين:اولهما ما هو ذهني..نفسي يقترن بالانسان وذاته..وثانيهما ما هو واقعي يهم الانسان وجودا باعتباره جسد وفكر يشغل حيزا في الفراغ وله فعل..وهذا يعني انها تعبر عن الذات والذات الجمعي وتكشف عما تمتلك من ادوات فنية وتكنيكية يوظفها السارد عبر تقنيات تزاوج ما بين الحكائية والفنية لخلق عوالمه المجتمعية الواقعية المكتظة بمضامينها الانسانية..مع شعرية اضفتها لغة السرد على امتداد النصوص برياحها(العاتية والمعاكسة والساحلية)..فضلا عن حضور المكان البؤرة الثقافية الكاشفة عن التحول السلوكي الذي لازم المشاهد الدرامية النصية التي شكلت حركة تبادلية محققة للتفاعل بين الذات والموضوع عبر فضاء مكاني محقق لاثره بما يضفيه على سلوك الشخصية..كونه جزء مكملا لوجودها الذي تتحرك فيه وتشغله ككيان اجتماعي..والتي يستوقفنا منها الخطاب المقدماتي المؤثث بعتبات تشكل المداخل الرئيسة للعوالم النصية ومحيطاتها..واولها العنوان العلامة السيميولوجية الدالة على انها(بلاغة ذكر الجزء وارادة الكل) على حد تعبير ابن العميد..اذ انه مدخل المعمار القصصي والسؤال الاشكالي الذي يتولى النص حله..كونه نص مكثف ومراوغ مستفز للذاكرة بتعالقه والنصوص..حيث يشير الى بنيات داخلها تعبر عن مقصدية السارد المنتج الذي يكثف النص العنواني المتشكل تركيبيا من جملة اسمية مندرجة ضمن نسق الجمل المحايدة(مبتدأ يتبعه خبره الجملة الفعلية..).. والتي وظفت مجازا واسلوبا ودلالة..فضلا عن خضوع بنيته في تشكيلها اللغوي والتركيبي لوعي المنتج وادراكه لاسرار المفردة وقيمتها التعبيرية التي تستميل المستهلك(المتلقي) وتحثه للدخول عاطفيا وعقليا في عمق النص السردي والتفاعل معه واستنطاق ما خلف مشاهده..مرورا بـ (اعطاء) اللفظة التي تستدعي وتستأذن وتنوب عن الاهداء فتكشف عن المتن ومتضاداته التي هي الحياة بموجوداتها(امنحني وقتا وتعال معي الى مكان يكون فيه الضوء والظل شاهدان على شخصيات هذه القصص ..نجلس في زاوية نتحدث بشكل عام عن الحياة وبشكل خاص عن الانسان..ولكن عليك أولا أن تكون مستعدا وان لم تكن كذلك لا تجازف..) ص5..
فالنص يتجاوز المألوف بتجريبيته كي يرتقي والذائقة ويحقق ذاته بتأثيره واستفزاز المتلقي وجعله شريكا في توليد النتائج وتحقيق فعل تأثيري يرتكز على المواجهة المتعارضة التي تستدعي فعلي(البناء والهدم)..
(حين قال: كن رجلا..لم يسبق لي مطلقا ان سمعته يكلمني بصوت الآمر.. كان الموقف رهيبا يستحق التركيز..يصعب تصديقه..يريدني طيارا..وما يبرر فكرته المتطرفة تلك(تعويض خسائر الحرب بالابطال) واشد المواقف ألما حديثه المهذب الرامي الى احتواء الموقف وتمرير أمره القاضي في عدم دراستي الطب..لم تبدر مني ردة فعل تذكر..فقط تأملت مسار حياتي ورايت لا خيار لي فيها(كيف يتدخل الانسان في صنع قدر غيره؟)..فكرت مع نفسي وامام تصاعد نبراته الحادة أودعت أحلامي للضياع..كان قراره قد وضعني في زجاجة على قمة هدمت للتو..كنت في أدق تفاصيل ذكرياتي التي اصبحت هشيما يذرني اليأس..سنوات مضت حروفها راكضة..عناوينها المكتوبة تبخرت..أخذت أمزق أوراقي التي صارت تالفة..باسطا كفي لا أبحث عن شيء يمكن له أن يتلاشى كالفقاعات في مهب ريح عاتية تقصف ظهري..الحقيقة في الصمت ملاذ وفي امساك اللسان قوة..فقط كنت أثرثر ثرثرة عاقل..أو قل كان من العقلاء ..نادرا ما يخرج من البيت الا اذا كان الى المدرسة او العكس..ولكن ما الجدوى؟ فما حدث قد حدث وصرت ذاك الطيار المطيع كما يشاء ابي..ربما رغبة منه ـ كي يثبت انه القائد في البيت وفي مقر الجندـ حولني أمثولة دمار خرافية لا يمكن نسيانها..) ص10..
فالقاص في نصه هذا يكشف عن تجربة مستلة من فضاء الوجود المتميز بشحناته المتصارعة وتفاعل مفرداته من خلال اقتناصها اللحظة والكشف عن دلالاتها باقتصاد لغوي يفرض على المتلقي التأويل بتحريك قواه الفكرية من اجل استنطاق الواقع وتحقيق عمل ابداعي يسجل انسانية الانسان انطلاقا من واقعه بكل موجوداته وابعاده..منبثقا من خياله ورؤاه الفكرية التي تكشف عن مخزون ثقافي يوظفه القاص من اجل توصيل رسالته الانسانية التي اعتمدت الحدث المركزي(الرياح المتغيرة )..التي ترمز للحياة وتجرنا صوب المتنبي في قوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
التي هي اللحظة المقتنصة من الواقع..كونه يشكل فضاءها وحيزها الذي تتحرك فيه وتشغله ككيان اجتماعي..يغلب عليه التوتر ويميل الى صراع الاجيال فيكشف عن التناقضات والتصورات فيضفي زخما من الحيوية والحركة الدينامية التي تسهم في خلق عنصر التشويق والاثارة…
(انتظار لا مفر منه وخوف لا مجال لتفاديه..زمن طويل وساعات تمر بطيئة.. ببطء شديد.. الدقائق تمضي فوق الهم الجاثم على صدره..ما يعوق أمانيه فقدان التفكير في المستقبل..عباءته مبللة بالدموع..يكابر أمام أوجاعه صامتا وهو يمط ويطيل بالآه..لابد من التحرر..انتهى من لبس ثوبه الاسود.. يتمتم (أين العكاز؟).. تقدم خطوتين ثم وقف يحاول الثبات أمام المرآة..تنهد وهو يلمح صورته المعلقة وسط جدار الصالة: ضاحكا يتوسط ابنيه أحمد ومحمد المفقودين في انفجار سيارة مفخخة هز المدينة قبل شهرين..
كان الحزن باديا عليه ومع ذلك واصل المسير برأس مرفوع خرج من البيت مثل نسيم متجدد يلوح الى الصورة المعلقة وسط الحائط..فجأة كبا في حفرة من حفر الذاكرة التي كتبت صفحاتها دماء الابرياء..) س31..
فالقاص يوظف الجزئيات بطريقة اسهمت في تطوير البناء الدرامي بوصفها وسائل كاشفة عن اعماق الشخصية المحورية واحاسيسها وتطوير الحدث..اذ يتداخل الحكي والتخييل السردي بشكل استرجاعي يقوم بوظيفة الادراك.. او ابداعي يقوم بوظيفة التحليل والتجزيء حسب..) على حد تعبير كولردج..بلغة تتماهى ولغة الشعر بتكثيف محمولات نحوية وتركيبية وبلاغية قريبة من دائرته..مع تكثيف وايجاز تتجاوز اللغة المعيارية والتقريرية.. هذا يعني ان المنتج يصوغ نصوصا محكمة البناء قائمة على التناغم الداخلي والترابط بين المشاهد النصية..مع امتلاكه قدرة اقتناص اللحظة المؤثرة والمتوترة من الواقع الاجتماعي واليومي الحياتي..فضلا عن تمكنه من توظيف تقنياته وادواته السردية ضمن رؤية جمالية..فهو يوظف الحواركوسيلة سردية للتعبير عن الافكار والرؤى الشخصانية لنقل حركة الحدث وتقديم الشخصيات بوحدات كلامية منتجة للدلالة في خط الفعل الدرامي..فيكشف عن وعي الشخصية وهو يتخذ مسارين/المسار الاول الحوار الموضوعي(الخارجي) ـ الديالوجي ، الوسيلة الكاشفة عن وعي الشخصية ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ضمن وحدة اسلوبية وموضوعية والذي يسهم في ابطاء السرد وغياب صوت الراوي العليم..واستنطاق افكار المتحاورين للكشف عما يدور في دواخلهم.. اما المسار الثاني فكان الحوار الذاتي(الداخلي) ـ المونولوجي ـ الذي هو حوار الذات والنفس..
(في اليوم التالي تهيأ سلوم الى الموعد..وقف منتصبا قرب سلم السفينة باسما في وجه الريح ينظر أماكن يسودها الخير والصداقة والحب وما تبعثه الطبيعة المعطاءة من جمال بلا ملل او كلل..كان يقول في نفسه (هذا ما عليك فعله)..رفع راسه الى اعلى وابتهج..كانت الغيوم ناصعة البياض ترسم بتحركاتها على صدر السماء الصافية اشكالا مبهجة..في صمت يبعث السحر والخيال لمح الاشجار منتصبة على ضفاف الارصفة تهزها النسائم..لمسات ضياء القمر تحتضن الحياة وتترك الظلال على المارين فرادى وازواجا في انسجام تام يرسمون بضحكاتهم السعادة..ترى في عيونهم الملونة رغبة البقاء..حب الحياة..تسمع من وقع خطوات اقدامهم وكعوب احذيتهم صوت البلاط الحجري المحاذي للرصيف وكأنه عزف موسيقي مستمر..بتناسق مستمر كانت الاشجار المحيطة بالناس تقدم للاطفال بانحناءة هادئة الامان.. لم يطل انتظاره حتى ظهرت نينا..تجاهل الشك الذي راوده عن كيفية ظهورها..أزال الفوضى من حواسه وسلم نفسه طائعا ليدها الناعمة..) ص72 ـ ص73..
فالنص مستفز للذاكرة الحدثية المؤطرة بتيمات التعلق بالبحر وما تثيره الطبيعة الداخلية والخارجية من مساقط الذكرى الخالقة لنص يبلغ اقصى درجة من التجريب بمقاصد وآليات كتابية تحفز المتلقي على البحث عن الامكانات القرائية باستنطاق النص وتأمل ما خلف مفرداته..كون المنتج المبدع يمارس المخاتلة التي تنبعث من الشكل والبنية والدلالة..فهو يوظف المكان(المغلق/المفتوح) الذي هو عالم من الحسوسات المتقاربة من الواقع..بصفته الفضاء الذي تتحدد داخله المشاهد والدلالات والرموز والهواجس التي تصنعها الذاكرة التي تشكل مكونات النص..فهو يعد من الوسائل الفنية ذات الابعاد المؤثرة لما يحمله من ملامح ذاتية وسمات جمالية وعواطف انسانية وتجارب اجتماعية تجعل من العمل متكاملا فنيا..كونه سجل لمختلف الثقافات والافكار والعادات وكل ما يتصل بالانسان..والذي يكتسب قيمته الفنية والموضوعية بوصفه وعاء الزمن الذي يدرك بالاحساس النفسي..فضلا عن انه يرتبط بالادراك الحسي الذي يشكل نقطة انطلاق صوب المجرد من خلال ثنائياته الضدية التي تتمحور حول(المفتوح والمغلق)و(الثابت والمتغير)و(الداخل والخارج)و(المركز والهامش)..والتي تسهم في تكثيف الدلالة للكشف عن عمقه وخصوصيته التي تكشف عن الواقع النفسي والبعد الاجتماعي للشخصية من خلال وصفه وتحديد الزمان والاعتماد على الوسائل الفنية التي تساعد على اثارة الحواس واستفزازها..اضافة الى انه يساعد على التفكير والتركيز والادراك للاشياء والبيئة التي تنتظم مع الاحداث والشخوص والزمن الذي يدرك باحساس النفسي في وحدة فنية موضوعية..
وبذلك قدم القاص نصوصا تعزز الانفتاح والحوار وتؤكد على تعدد الاصوات وخلق التفاعلات…

اترك تعليقاً