رصد مسار الحب والمطر والحبر والنور في شعر الشاعر اللبناني بسام موسى .


ــــــــــــــــــــ قراءة بقلم

: الشاعرة د.أحلام غانم


حينما ندرك أن النص الإبداعي نص حيّ ، يتمرد على جمود الحرف وهيكلية الكلمة ، وحين تنهض اللغة التي لم يقلها الشاعر في الكشف، حينها ندرك قول باشلار :”أن وظيفة الشعر الكبرى هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا “،ونكتشف ذلك الجدل ، الذي يفضي إلى الخصوبة المعرفية ،حيث الإشارة تمحو العبارة ،و معنى الحب ونبض المطر كائن خلف الإشارة.
لعبة الزمن
تتجلى للقارئ الرائي لعبة الزمن ،ويتجلى الفهم الشعري ، وتبرز وظيفة الصورة الشعرية من خلال انتقاء الشاعر الدقيق لمفرداته المعبرة من خلال خزينه الروحي والمعرفي واللغوي ، فيبدو أن اللغة لم تعد كصوت مسار الإشارات الوحيد ،ذلك أن اللغة الشعرية قد انفصلت عن أنواع الخطابات الأخرى ،وأعادت رسم خارطة الأنواع التي بلغت جسد الإشارات اللغوية واخترقت حدود الأبجدية ، وحققت انحرافها عن مسار اللغة في التعبير المباشر ،ولهذا ميّز ” بول فاليري ” اللغة الشعرية _ أو اللغة التي ينشأ عنها الشعر _ عن اللغة العادية عن طريق هذا الانحراف أو الانزياح عن التعبير الواقع.
السؤال بوصلة الشاعر
نحاول أن نجس نبض السؤال في مجس الذات الحسّي والذهني والتجريدي ،ونجس الذات في مجس الجواب الرمزي لندرك أن المعنى شيئا مجازاً يسبق اللغة ، وهذا ما يجعلنا نؤول لغتنا داخل لغة النص / الحب .
إذا اعتمدنا هذا المجس الاختباري في الكشف عن ماهية الانبثاق الشعري لدى الشاعر اللبناني “بسام موسى ” ، يمكننا الكشف عن السؤال /الشاعر/ الآخر الذي لم تشكله الكلمات بعد ،لأن السؤال بوصلة الشاعر التي تحرك الشاعر في غياهب الوحي، كي يتلمس في عالم المُحال ذاته في الوجود ، ويستجلي العارف تلك العلاقة بين الحبر والنور، بين المطر والضوء ،بين المادة والروح.
بلاغة الحب
يتجلى خطاب الشاعر “بسام موسى ” الشعري ببلاغة الحب، وصيرورته، وتمثيلاته الجمالية المتعلقة برحم العُشَّاق وتحولات الأنوثة، واتحادها المحتمل بالآخر، وبأطياف الأمنيات المتوهجة، وبالعواصف المستعادة في تكوين جملة مفيدة تسكن في الفؤاد نرجساً ورياحين، ويتصل فيها السياق اللغوي بالسياق الثقافي؛ وأخيلة الإعصار الشعري، تمتزج بذاكرة الشوق، و الخوف والتمرد؛ و ترسم طيورُ الشعر شكلَ القصيدة أقماراً ..وغزلاناً .
فنجد أن الشاعر أبدع في تشكيل انزياح لغوي خلال التوازي بين ( عسل الخوابي في الشفاه ،وخيوط الرعشة العرجاء )وتبدو /نور /في صمت العُري فتنةً للشمس و روحاً للمعنى ودون توسّل القمح للغة الخطايا التي انبثقت بين النون والقلم نجدها حاضرة بكل ما فيها من لوحة شعرية وقائمة كمآذن النور حين تتخاصم الأحلام عند ظلالها،حيث يقول :
تتخاصمُ الأحلامُ عند ظلالها /وتغيب في سِمْتِ اللقاء دُهورا
“نور” تُصَفّقُ كلُّ أجنحةٍ لها /ويئنُّ شوقٌ عاذلاً وغَيورا
تجسير الهوة
يرفدنا الشاعر بسام موسى بمحارات الشعر المعطر بالجمال ،ويقدم سيرة السرّ الأبدي لانشطار الذات فوق أرصفة المُحَال ضمن وشائج وصور تجسد استعارات هذا اللهب القدسي حيث تمتزج سيرة الجسد بالحب وهي تشكل في تخوم اللغة جرأة الموقف و قدرة القصيدة على إعادة تجسير الهوة بين “أنا” الشاعر وتلك الصور التي طالما أعادت أحد أهم التيمات الآثيرية للشعر.
في ملمح آخر ، وبهذا التدرج في المعنى والتدرج في تجسير الهوة تصل بنا إضاءة الأستاذ والمفكر الكبير “سهيل الطَّشْم ” إلى وطن الشاعر ،وطن الدهشة والغرابة والسِّحر ،إلى خوابي العطر الممهور بتواقيع الحب ،إلى تخوم النور حيث يقول :” وعلى نفس المسافة في التبَّايُن الذي ألِفَهُ أهلُ البلاغةِ تَمَنُّعاً طِباقيّاً تعيش دائماً مع شاعرنا في مَهَبِّ الريح تفاصيلُ النَّخيل مع عاصفة الرّحيل .”
شمس القصيدة
عندما تقرأ قصائد بسام موسى في ديوان (الحب والمطر) الصادر عن حركة الريف الثقافية عام 2007( أشعلُ قناديلكِ و أنطفئ ) الصادر عن دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع ،ستفتش عن نفسك في وجه المرايا، وستجد نصفك الآخر في فيض من الخزامى والبنفسج وخيالات الصور , تبدأ من دهشته التي لا تكتم الريح مسكنها , و مدى جنونه و هو يصنع لغته بلذة سرمدية ، تلامس قلوبنا، هكذا يبدأ برسم أحلامنا على نسيج القصيدة ويسافر بنا كالغروب حين يكتمل المعنى كأنه شجر من ضوء العين و أغصانها المطر , تسمو وتتطاول في علوها القابض على المزمار والوتر , فتهدينا ثمارها قصيدة تغادر نحو كتاب الله نحو هوى العشاق تاركة شال الوفاء , اعترافات كالعيون التي أثقلها النعاس؛ كأنها شمس القصيدة لا تُرْتَجى كلمة بها تاب الزمان ولا يتوب من طحن الشوق على مرايا الجسد وصهيل الرغبة على خَطِّ الفيض فيقول : “في مرايا المسام الدافئة / مدنٌ تتناسلُ /من نسغٍ ،/على خَطِّ الفيض،/واحاتٍ وثُغاءَ/شِياهْ.
الصورة الذهنية
الشاعر بسام قد نجح في بناء معمار صوري شعري حسي ..رغم أن الأسلوبية التي اعتمدها مليئة بالوجع والخسارة والأمل والانتظار حيث نراه كالطير فوق لَيْلَك الحزن وبحيرة يتحسس حركة الكون ووجع الغياب، وفي ذاكرة الشفاه يحلق في رحلته عبر قراءات على مفارق الدهشة ، لا يقتفي فيها أثر، بين مرايا الجسد وألفباء النساء، ولكن بصور ذهنية تتلاءم مع عمق خسارته ووجعه وأمله في ذاته ووطنه وبذلك يعزز درجة التوتر في القلب عندما يحدثنا عن امرأة كبيت العنكبوت :
أحدِّثُكُمْ عن امرأةٍ
كبيتِ العنكبوتْ،
في موج عينيها
المدى والتيهُ
تسكنه الرعودْ،
وشواطئُ الحلمِ الرَّضيعِ..ص-81
وإذا كان هذا هو حال الحب/الحبر/المطر /الشعر /كجسد /كنص يتشكل في معناه ، في برزخ الوجود، فما هي الأدوات التي نستعين بها لبلوغ بسام الشعر وفرات الصوت وآهات السَّحاب؟
خصوصية الصوت
لا شك إن الكشف عن خصوصية النص الشعري لدى الشاعر بسام موسى ينهض من خصوصية الصوت ، لأنه من الشعراء الذين ابتكروا مسارا مختلفا في المشهد اللبناني ، سواء على مستوى اللغة ، أو على مستوى التشكيل الشعري ، وبالتالي تصبح القصيدة لديه حركة خلق مستمرة ، حركة لا تكف عن الصعود على سلالم المعنى ، للوصول بنا إلى لحظات الكنه الأولى، ويضعنا على حافة الحلم الساكن في داخلنا .
هذا نتلمسه عبر عينين غارقتين في كأسَيْ كلام ، حيث يقول : “هي اكتمالُ الفيضِ /في تَرْحاله/ من مَهْبَطِ النُّسْغِ/ الخصيبِ /إلى مواعيدِ الثمرْ .
القوة القلقة
من تلك النقطة التي تنعت بالقوة القلقة تنطلق أحاسيس الشاعر التي تخاطب الآخر بلغة باطنية قائمة على الحدس والشعور الباطني وبما أن الأحاسيس الموضوع الوسيط للمعرفة لا بد من إلغاء المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع كي ندرك أن الحب هو مفتاح ولوج عالم الذات /النص ، ليأتي الجواب دون أن ندري من داخلنا ،ومع ذلك نلح على طرح الأسئلة : كيف نحقق الانتقال من الحب إلى أفق الحب للوصول إلى الموضوعية المتجسدة في تراكيب الحب /النص/الذات المكونة للوحدة العضوية ، وكيف تتحول الذات/ الخيال إلى شعر ،كيف لنا التحرر من تأثيرات الواقع ،و كيف تلغى حدود الزمان والمكان ليحل محلها “التسامي الخالص”؟
في لغته حروف الريح:
من خلال ذلك يظهر لنا جليّاً أن لغة الحب ليست هي قنديل الأفكار المزهرة بين النقطة والفاصلة، والمفردات أرواح يستند القلب/النص عليها ليجذب المعنى، ولعل تلاعبات الشاعر اللغوية ترسم صور الحب من زوايا مختلفة و ما تقطره طقوس الرغبة الجَذْلى وما تشكله زهرة المعنى المبللة برذاذ الشوق والريح والمطر ، وبهذا محاولة لرؤية الذات المنعكسة في المرآة بإظهار المعنى والقيمة لشهوة الرمل وصفير الكلام في بيت العنكبوت.
قد يتلون ويتنقل متمردا كالريح من الأصمِّ إلى الضرير بهيئة بائعة هوى أو أنثى مجنونة تتلمس خارطة اللامكان..
يغتال أشكال السؤال كلمسة “امرأة تختزل الدنيا “، ونراه كمؤذن للمعنى ، يضمُّ كلماته بين السطر والسطر ، ويدخل مدارات معنى المعنى عاريا ،حافيا كالضرير ليتأكد لنا قول الجرجاني بأن (الشعر هو المعنى) ويكون اللقاء الشعري بين أروقة السراب في منتصف الظنون ،ويصرح لنا وهو على فرس الصدى :” عدنا التقينا /بين أروقة السراب/وأنا على فرس الصدى ،/آتيك../ في لغتي حروف الريح،/محبرتي تراتيلُ الغياب .”
الشاعر بسام يمارس شعريا تشكيل لوحة القصيدة عبر لغة تكوينية حنَّت ضفائرَها الذنوب ؛ شاعرية منفتحة على آفاق كونية تقارب بين فكره و خياله الإبداعي فهو جعل الإهداء وشرفة التواصل والعاصفة الاستثنائية بين التشكيل و الإيقاع منفلتة من سلطة النص و على محور الأداء الشعري ذاهبة نحو مدائن الشعر بهذه الافتتاحية الواسعة التي تسمح من خلال تراجيديا الحب والمطر للتأمل بالروح عندما تسجد في جوامع الحب مع الكلمات , هذا التأمل الذي سيخترق المحال كتعاويذ السِّحْر على الورق فيقول في قصيدته ( امرأة تختزل الدنيا ) :أحد َ عشرَ عاماً وأنا أعيش اغتيالاً
يغالني نهداك كل ليلةٍ,
وشفتاك العاريتان تُمَزِّقان صَمْتَ الجسد
قهوتك الصباحية تسكرني
وعيناك الزرقاوان ،كتعاويذ السِّحْر
يخترقان المُحالا . ص-51
تستجيب القصيدة لدى الشاعر بسام لفيوضات الذات ، وكي يجعلنا نتلمس المعنى المطلق ،يقصُّ مثلَ الجنِّ قصصَ الهوى ،فتتصاعد الآهات من خوابي الظنون، ونهرول في العراء ، فيحملنا الشعور بأن هناك له روح تجسد ّ بحة الشوق، ويشده جسمها كلما انتعل خُفَّين من خمر القمر، يصغي لنبض الجسد ،لنراه يبقى لحظات مع نفسه يتأمل السفوح العاصية عندما يطحن الشوقُ قمحَ الكلام وتشتد ّ ظلمته حين تطل ّ منه الذكريات وتنكسر على شفاهه قيثارة الأحلام .
خلاصة القول : المعنى لا يغيب في صورة الحب والمطر أو عنها لأنه هناك اتحاد وتراسل بين العقل والعاطفة والحواس في ذات الشاعر، ولأن الكلمة الشعرية لا تُغير محتوى المعنى وإنّما تُغير شكله كما يقول “جان كوهين “وهذا يفتح مسار القراءة أنّى اتجهت إليها على فضاءات لا نهائية ونقف والشاعر على مطلق المعنى الذي يمثل سدرة المنتهى ونؤدي السلام على نور الكلمة وننطفئ.

اترك تعليقاً