الشاعرالإيراني الفيلسوف”علي رضا قزوة”و تجلّيات “ربيع في  المصعد  قراءة : الشاعرة د.أحلام غانم


مهاد لابد منه :
ينتقل بك الإحساس وأنت تقرأ ديوان الشاعر الفيلسوف “علي رضا قزوة” المعنون (ربيع في المصعد) إلى صميم الصورة الشعرية التي تضيء بنورها الوعي ،وإنه لمن العبث أن تبحث لها عن سابق في اللاوعي ،فإذا بك تشعر شعوراً قوياً بأنك ربيع في المصعد /شاعرٌ محاصرٌ في المصعد ،وتتنفس هواءً ربيعياً، وتغريك الفصول الأخرى، لتقف بحَيْرة أمام أزرار العقل وأيّها ستضغط، فتنداح في عالمٍ مترعٍ بالرؤى والفلسفة والتضاد.
ربيعٌ في المصعد / روحٌ في القصيدة ، رائحة تضاهي رائحة الربيع /الوجود ،وقد أراد لهذه الرائحة أن تكون حرة ،لذلك يخط رسائلاً غريبة إلى حيفا كغربة الروح ،وضاعف من غربتها عزلتها عن الأمكنة والأشكال ، وبدت كروح تائهة وهائمة لا تدرك مغزى لذاتها دون أن تلبس حالاً من حلات الإبداع ، في محاولة لمقاومة العدم والزوال فجاءت إحدى رسائله :”لسنا
نحن سجناء الأرض
فغداً سيخرج اللهُ
الأرضَ
من زنزانتنا !
تجليات الدهشة :
ووفق هذا المنظور ، وحيثيات التقاء تجليات الدهشة واستثمار المعنى داخل قوامها الشعري إلى أن الشعر عند الشاعر هو :رحلة للبحث عن المعنى/ الحقيقة/ اليقين وسط اللا انسجام، والفوضى، محاولة خلق معنى من اللامعنى.
وجاء في هذا المعنى قوله :
” لا أمل في قرص خبز
وطاحونة قلبي تدورُ
فقط من أجل أن
تأخذ بشعري إلى البياض ! –ص20
إلى أن المعنى عند الشاعر يشير إلى تمظهرات جملة من المخبوءات (الوجدانية الحسية) و(الفكريّة الواقعية) المتوائمتان مع نسغ الدلالات القصدية المبنيّة على الاشتغالات التحريضية في عمق المبثّوثات الظاهرة، والخفيَّة التي تصطرع في لواعج الشاعر، وتظهر بأشكالٍ والفاظ مختلفة المعاني، وذلك باستخدام مرجعية الانزياح، والرمز، والإيحاء، والدلالة، لتحويل الربيع/المعنى عند (علي رضا قزوة) من شكله الثابت المؤطر، إلى شكل مُتحرك حيّ دائم.
ويَتحوَّل المعنى لديه، إلى معانٍ ليست لفظية، بل معانٍ ذات دلائل تحفيزية على التحريض، من خلال التكثيف في اللغة، والاختزال في الصورة، والتشفير، وبثّ الدلالات الهادفة إلى التحريض ،فتسدل على العين كما تسدل أشعة الطيف عليك وسرير الرؤيا يدور بك، ثم تستيقظ أعظم قدرات الصورة الشعرية في أحلامك، فإذا بك تترنح بين مدنها وأسمائها ،لتضمن قدرتها لك عبورا أتمّ إلى الروح والوعي، كي لا تعلم أينما تكون، وتكون صلاتك بتوقيت كربلاء ،و هبوط قصائدك بتوقيت بيروت .
عين العقل:
يشكل “قزوة “الشعر من ربيع الروح ويشير على مكمن الروح إشارة خاطفة في قوله : ” من الشعراء/آلام أبنائي/ من الورود، نرجسة طفولتي/وأينما أكون/ستكون صلاتي/بتوقيت كربلاء/وقصائدي/بتوقيت بيروت /.ص6
ولتعلم أن هذا الشاعر والفصل الذي ينتمي إليه ليس ربيعاً واحداً في المصعد..إنه زمنٌ بتواقيتٍ متوافقةٍ ومتنافرةٍ في آن واحد ،تتآلف بين الذات والآخر، لتعلم أن “ذاك الذي أتى اسمه بشيراً في القرآن ،يريد أن يبعث في الشعر شعراً حقيقياً، ونحصل على الانطباع بأنه يمكن تمرير جبل “البرز” من ثقب إبرة ولا يمكن تمرير قصيدة “علي رضا قزوة ” لأنه كعين العقل تُعنى بالموجودات الكليّة والجزئيّة للنفاذ من خلاله إلى الأشياء الأخرى ويصبح أكثر تواصلاً مع الحقيقة..فالحقيقة ربّما هي حقيقة ظهور قدرة الشعر الفريدة على تحفيز إحساسنا بالاندهاش.
الفصول المتجادلة:
اختارت قصيدته (ربيع في المصعد) انتماء حلولياً في اللغة ، من خلاله أنجزت الشعرية بنيتها اللاسكونية ،حيث يتصارع اللا مكتوب مع المكتوب في محاولة للانفصال عن الزمكانية ، داخل هذا المصعد تنمو دينامية حلمية جذرها الفصول المتجادلة ،القابضة على الضدّيْن في وجودها.
لقد شاكل الشاعر همومه مع رحيق الكلمات ، ناثراً معاناته الإنسانية ،وتتوامض اللحظة الشعرية في هذه القصيدة مُشكلةً مشهداً تسارعت ومضته الأولى المعبأة بالزمنية والمتسارعة في ظهورها الثاني رغم انقطاع الكهرباء ووفق ذلك يقول :
وأنت
لا تأخذ هذه الالتصاقات
بسقف الجد
ولكن الكهرباء والأمطار جدية
كما أن الربيع يحاصر أحياناً
في المصعد! –ص 13
تحرير الروح :
يمارس العنوان (ربيع في المصعد) لعبته الوجودية في ربيع مبهم ، أعني إعادة صياغة روح المعنى في ضوء الواقع الشعري بل يريد الشاعر تحريره من الشكل وإطلاق الروح ،إيماناً منه :إن بقيت الروح محبوسة في مصعد لا تعمل أزراره ،فإن ذلك يسلخ عنها الرؤيا ويجردها من القدرة على الحركة والوعي.
فالشعر عند الشاعر”على رضا قزوة “يشترط تحرير الروح من إسارها كي لا يكون عودة الروح استحالة ويتنكر الربيع لها فتجد نفسها أمام مدخل صعب.
(ربيع في المصعد )
الزمن المطلق :
العنوان بحد ذاته خلية نحل يقع فيها القارئ ولا يخرج منها إلا بعصف ذهني وجهد كبير هي لعبة اللغة ذاتها يلعبها الشاعر بمهارة ، لعبة قائمة على المراوغة والمشاكسة ورط الشاعر القارئ بملأ فراغات النص ونسج الخيوط الدلالية بنفسه فلا شيء مجاني في ركوب مصعد اللغة عندما يقرصك النحل .
هذا العنوان في علاقته بالمتن النصي أسس لثنائيتين الأولى هي ثنائية الشك/ واليقين، والثانية ثنائية الحضور والغياب.. فالعنوان يعلن يقينية المعرفة التي مررها الشاعر من ثقب ابرة العقل ،ومن الصيغ الفعلية في الكلام التي عملت عمل المحركات التي تنقل الطاقة من حال إلى حال، وأصبح الاسم حدثاً غير مقترن بزمن .
لذا واضح أن الشاعر يطلق روحه كربيع في المصعد بمعنى أنه يريد أن يحررها من المكان ومن صورة الفصول لتركن إلى زمن مطلق .
كما قال في نص” الموت الحنون:”
كم خطأ عظيم هذا
نحيك للغيم كفنا
نحفر للأرض قبرا
ونقيّد يد الزمانِ بساعةٍ”ص-19
من الواضح أن الشاعر يكابد ضائقة كونية ،نوعاً من “الاتهام ” نتيجة الشعور بأنه لا يرى مدخلا أو معبرا إلى الما بعد أو على الما فوق.
يقول الشاعر في “الضائقة” نفسها:
إذا أحسست بضائقة
التقط معطفك
أمسك يد القمر
وتعال إلى داري ص-17
في حضرة الشعر :
فما هو واضح أن الروح ولغته يبذلان جهدا يبتغي التحول إلى أثير و حلول الصفاء في حضرة الشعر كي تبلغ الروح إلى أهبة الاتصال بالملأ الأعلى حيث لا ظلم ولا حرب ولا قهر أو جوع.
ومما أظنه ،الرشاقة التي تسكنه تفوقت على رشاقة “شارلي شابلن ” رمز الخفة والرشاقة البصرية في العالم ..والتي تتميز روحه بها من شأنها أن تحرر الأسلوب من كل ضائقة ممكنة ،ومكنه ذلك أن يمرر غباره من ثقب الإبرة وبهذا المرور /النزوع الإنساني يكتسب قيمته الجذلى ،والقيمة هي المركز الذي يدور عليه الشاعر ابتغاء “الغائب الذي لا يغيب “وتجديد ذاته الشعرية أو ابتعاثها في كل دائرة .
فقد جاء في “قصائد على شاشة السينما “هذا القول :
سيدتي ..!
هل ترين على الشاشة مطراً
يأخذ معه المفردات ؟
إذن لم أنا أظن
أن العالم على وشك الإغلاق
وأن هذا
هو الدور الأخير للعالم “-ص 9
النزعة الصوفية :
فجاءت هذه اللغة ناعمة سلسة ،إنها لغة انخطاف يغلب عليها النزعة الصوفية الطافرة صوب الله.
قد نلاحظ أن (المطر والماء) هي عناصر تتواتر كثيرا بين ثنايا “ربيع في المصعد “،ومما هو معروف أنها مفردات صوفية ،بل نراها رموزا للإشارات الإلهية ،ورمزا للعرفان والعلم بالله نفسه.
وبنهج عرفاني ،يلوح بإتقان العارف من خلال قوله :
“لم أطلب من عالمكم
سوى أن يكون لي
مكان لإنشاد الشعر
تحت ظلال المطر
وشبرين من مكان ما
لكي أموت بالعاصفة !-ص 21
تطالعك كل قصيدة من قصائد الشاعر الفيلسوف “علي رضا قزوة “في هذا الديوان الصغير الشكل والممتلئ بجواهر الشعر بجملة من الأسئلة الحائرة ويطرح السؤال الغائب الحاضر عن علاقة الحرية بالشعر، وأيهما يغذِّي الآخر؟
هي ذي ،إذن تساؤلات أم رسائل الشاعر الرائي والمفكر الباحث إلى العالم ،والذي لم يجد مخرجا بعد إلى الربيع المنداح ،ولكنها تنم في الوقت نفسه عن اغتراب روحي ،أو الاندفاع الصاعد باتجاه سدرة المنتهى و الطريق المنتهي إلى المعراج .
أو الوصول إلى قول مفاده :”أن الشعر قوة داخلية تعمل بطريقة ورؤية غامضتين، وأن المنطق والزخرف البلاغي ألد أعدائه”.
الشعر نوع خاص من الصلاة:
أو النظر إلى الشعر على أنه نوع خاص من الصلاة بمقدوره أن يستوعب كل طبقات المجتمع في محرابه.
لنكتشف أن الفروق الطبقية أو العقائدية لا يمكنها أن تدمر قوّة الروح الحارسة التي تَرْقي وترشد ،وإنه رغم الضجيج والدخان والاضطراب الذي يسود الحياة ،هناك منطقة صافية ونيّرة من الحقيقة يمكن أن يلتقي فيها الجميع ليهيموا سوية.
ويكون لهيجل الاعتقاد :”بوجود عقل مطلق أو إلهي موجود في الطبيعة، بمعنى أن الوجود الواقعي كله هو المطلق وأن الفكر ما هو إلا مظهر لهذا المطلق، ويكون للشاعر (على رضا قزوة ) هذا الصراع بين “ربيع في المصعد” وبين الخضوع للإشارات وبين ما تقتديه الكتابة الإبداعية من حتمية الموت والحياة ، لتجد في آخر الأمر أن الشعر الحقيقي هو ذاك الشعر الذي يختصر العالم بكلمة أو يمرر الكون كُلّه من ثقب إبرة .
ـــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً